بين المترجم والناقد

بين المترجم والناقد

07 يونيو 2020
فريد بلكاهية/ المغرب
+ الخط -

يتقبَّل القُرَّاءُ أن تنهض الكتابةُ الأدبية بمهمّة التعبير عن مؤلِّفيها مواقفَ وتطلعاتٍ، وعن الخصوصية الثقافية لمجتمعاتهم، بتاريخها ومعتقداتها وأفكارها وتقاليدها وأحلامها وغيرها. ويَقف هؤلاء القُرّاء أنفسُهم على أن مهمّةَ الترجمة - بصفتها قراءة استكشافية منتِجة لنصوص موازية - هي ضمانُ أن تُغادر نصوصٌ أجنبية موطنها، لتحضر في أفضية غريبة، وتقدّم وهَجاً تعريفياً بمُبدِعيها والثقافة التي يمثّلونها، فتُخصِّب التربَة الجديدة التي تَفِد عليها، وتُثير نقاشات لا تخلو من فائدة.

وهكذا، تُيسِّر الترجمة التلاقحَ الثقافي، لأنها السبيل الممهّد للتّعرُّف إلى الغريب، وذاك ما لفتت إليه الانتباهَ فرجينيا وولف؛ الروائيةُ عند استشهادها بحال كُتَّاب روسيا العظماء كتولستوي ودوستويفسكي وشيخوف الذين "لم تتسنَّ في السنوات الأخيرة سوى لواحد أو ربما اثنيْن من الإنكليز قراءتُهم بالروسية، وأنّ تقديرنا لقيمتهم شكَّلناها عنهم بوساطة نُقّاد لم يقرأوا كلمة بالروسية أبداً، ولم يروا روسيا أبداً، وأبداً لم يسمعوا تلك اللغة تُتحَدَّث من قِبل سكّانها الأصليّين أيضاً؛ وأنه كان علينا أن نرتهن، في عمى وضِمنياً، إلى عمل المترجمين".

يتّضح من كلام فرجينيا أنّ لا غنى لنا عن الترجمة للتعرُّف إلى الأغيار، وأن حضورَ المترجِم وسيطاً مسألةٌ لا مندوحة عنها، للأسباب المذكورة أعلاه، ولإسهامها في تحقيق التفاهم بين الشعوب ودعم التقارب بين أفرادها. ولا يخفى أنها تخدم المؤلِّف الأصلي بامتياز، لأنها تذيع عمله بين كثيرين، بحيث لا يقتصر إشعاعُه على أبناء ثقافته وحدَهم، بل يصل إلى ثقافات عديدة بعدد اللغات التي يُترجَم إليها.

لكنْ هل حقّاً يقتصر دور المترجم على الوساطة وحدَها؟ ألا تكشف مزاولته لهذه المهنة عن طموح معيَّن؟ ولماذا أغلبُ المترجِمين لا يكادون يُزحزحون عن مهمّتهم؟

تبدو الترجمة، بالنسبة إلى المترجم، قراراً وجودياً حاسماً، يتّخذه مُجترِحُها، فتَصِير مندرجة لديه ضمن مشروع واضح هو نوع من الكتابة الخاصّة، تلك الكتابة التي أضحت تُعرَف باسم مخصوص هو "إعادة الكتابة"، والتي تنمّ عن رغبة أكيدة لدى صاحبها في أنْ يكتب على غرار المؤلِّفين، لكنّ وَهن عزيمته الإبداعية، بسبب فقده الثقة في قدراته، تُحوِّله إلى الاقتصار على إعادة تدوير نصوص الآخرين أو رَسْكَلتها.

ويُسلِّم المهتمّون بالترجمة وقضاياها بأنّها شكل من أشكال الإبداع، نظراً لسعيها دوماً إلى التفوُّق على نص مُبدَع سابق عليها، ولأنها تكون مسكونة بهاجس إعادة الخلق.

ويُدرك أولئك أن حال المترجِم لا تختلف في شيء عن حال الناقد، الذي غالباً ما يكون كاتباً مُحبَطاً، وعاجزاً عن الإبداع، يُحوّل نشاطه في مُعظم أعماله إلى آلة تدميرية، لتركيزها على إظهار الخلل والعيوب في الآثار التي يقول حولها قولاً آخر.

ويعي أولئك المهتمّون أنّ المترجِم، من جهته، هو كاتبٌ محبَط أيضاً، يعجز عن ابتكار نصوص إبداعية، فيغوص حتى أخمص قدميه في إعادة الكتابة، التي لا يجد له فكاكاً منها، بل تراه يعشق تورُّطه فيها، حتى إنه يَقبَل أنْ يكون كائناً أثيريّاً يكاد لا يُرى له حضور في عمله، ويتنازل عن كثير من حقوقه، مُكتفياً بأن يَرى جهدَه يُنشَر، ويُفوِّت على نفسِه كتابة نصوص أصلية تَكون أَثرَه في العالم.

ويبقى أهَمّ ما يَفْضل به المترجِمُ الناقدَ هو سَعيُه إلى الترويج لعمل مؤلِّف آخر، قد لا تربطه به أيّ صلة سوى الكتابة، فيُعنى بالارتقاء بعمله عبر تسويته في أحسن تقويم، ليُضاعِف استمتاع الناس به وإفادتهم منه، مُفصحاً عن خِصلة البناء عوض الهدم، ولعلّ ما يؤكِّد ذلك هو أنّ المترجِم بصفته قارئاً مثالياً، يتعقَّب النصَّ الأصلي حرفاً حرفاً وكلمةً كلمةً، وعادة ما يكتشف في المتن هنات وأخطاء، فيُصلح منها ما استطاع، ويتغاضى عن تناقضات، بخلاف الناقد الذي غالباً ما يهتبل ذلك الصيد، ليستعمله دليلاً يُبرِّر به على مؤاخذاته على المؤلِّف.

ولعلَّ الموقفَ الإيجابي للمترجِم مَردُّه إلى ذاك الإحباط المشار إليه أعلاه، وأيضاً إلى تطلُّعه الدائب إلى ولوج مضمار الكتابة، التي يحتجن مضمارُها بكثير من الكُتّاب الذين اتخذوا الترجمة مطيَّة لولوج عالَمها.

المساهمون