جون شاردان.. محاولة فرنسية لدخول بلاد فارس

جون شاردان: محاولة فرنسية لدخول بلاد فارس في القرن الـ17

06 يونيو 2020
صحراء دشت لوت بمحافظة كرمان، إيران (ويكيبيديا)
+ الخط -

لم تتوقف بلاد فارس عن أن تكون في سلم أولويات القوى الأوروبية الغازية، وذلك منذ القرن السادس عشر، وفي القرن السابع عشر، أصبح الوجود الأوروبي ملحوظاً بشكل كبير، عبر الشركات التجارية المقنعة، والتي حاولت الدخول إلى هذا العالم المغلق، وافتضاض بكارته.

وقد حاول الهولنديون قبل ذلك، ثم جاء الفرنسيون، وأخيراً وصل الإنكليز، لكن النتائج لم تكن كما هو متوقع، إذ برغم الفساد الذي كان شائعاً في أوساط النخب الحاكمة في تلك الفترة في إيران الفارسية، لم يكن ممكناً القيام باختراق كبير.

وقد سجل ذلك السير الفرنسي جون شاردان، المبعوث من طرف الملك تشارلز الثاني، وهو في الأصل تاجر مجوهرات، لكن جرى تكليفه بمهام أخرى، تحت لبوس التجارة.

زمن رحلة شاردان هو بين 1673 وسنة 1676، سجل فيها مشاهداته في بلاد فارس التي كانت تحت حكم سلالة السلاطين الصفويين، وتوقف بدقّة عند آلية الحكم في الإمبراطورية الفارسية، كما وصف الأطماع التي كانت تتهددها من جميع الجهات، وخصوصاً الأطماع الخارجية، من طرف الفرنسيين والإنكليز والدنماركيين والهولنديين، ومحاولات سابقة للبرتغاليين للوصول إلى الخليج العربي واليمن والسيطرة على المعابر البحرية الأساسية.

ويصف شاردان نظام الحكم في فارس وفي قصر الشاه، ومحيطه، وما كان يحبل به من مؤامرات ودسائس وصراعات. ويقف عند خاصية الحذر الشديد من الأجنبي، والتي يتميّز بها حكام فارس، وصبرهم الأسطوري في إدارة الصراع وربح المساومات، وإبرام العقود التجارية، التي غالباً ما تكون في صالحهم.

يكتب مترجم كتاب "رحلات إلى بلاد فارس" صلاح صلاح، لتوضيح أهمية هذا الرحالة الفرنسي في متون الرحلة الأوروبية إلى إيران والهند والصين، ما يلي "بغض النظر عن قيمته التاريخية المعتبرة، يوفر عمل شاردان الأول نظرة تاريخية نافذة البصيرة في الذهنية الفارسية، أمر كان في غاية الجدة في الكتابة الأوروبية في ذلك العهد، كونها تقدم في الواقع نظرة داخلية. زار شاردان الهند سنة 1667، لكنه عاد إلى فارس في ربيع 1669.

وغادر إلى أوروبا ومعه "رسائل ترخيص براءة ذمة" من الشاه الذي "أعطاني إياها لتصنيع عدة مجوهرات قيمة جداً، قام جلالته بنفسه بتصميم نماذجها بيديه". وصل الرحالة الجسور باريس سنة 1670، وبهذا ختم رحلته الأولى بنجاح. شرع شاردان، رجل يتحلّى بطاقة استثنائية، في العمل مباشرة بعد إيابه لينقب في أوروبا عن أروع المجوهرات التي يمكن أن يبتاعها المرء، ليضمن نجاح مهمته. استغرقت هذه المهمة سنة من الزمن، وعندما تم تصنيع كل قطعة وفق ذوقه ورضاه، شرع في رحلته الثانية إلى فارس، التي وصل إليها في عام 1672.
استقرّ تلك المرة في الريف مدة أربع سنوات، حيث درس آدابها وعاداتها ومصادر ثرواتها بشكل شامل. يظهر هذا في المجلدين المختارين لإعادة طباعتهما اللذين يحملان عنوان "أسفار السير شاردان في فارس". يوضح الرحالة العظيم في استهلاله أنه قدم في مجلد سابق رحلته من فارس إلى أصفهان، وبدوري أقدم في هذه المقدمة بعضاً من تجاربه وتأملاته.

لم يرحل شاردان بعيداً وعميقاً، يدرس فارس وأهلها بعمق فقط، بل جنى ثروة ضخمة لتجارته في المجوهرات. وعندما قرر العودة إلى الوطن سنة 1677، أثرى تجاربه باتباعه طريقاً تمرّ برأس الرجاء الصالح. بعد انتهاء أسفاره، عاش شاردان في فرنسا بعض الوقت، لكن بسبب اضطهاد البروتستانت، الذي بلغ أوجه بعد بضع سنوات في إلغاء "مرسوم نانت"، قرر الاستقرار في إنكلترا، حيث استقبل هناك بالترحاب من قبل تشارلز الثاني، الذي عينه صائغ البلاط ومنحه لقب فارس سنة 1681.

بعد فترة وجيزة من إقامته في إنكلترا، تزوج أستير، ابنة عضو مجلس روين، الذي كان يدعى "زهرة التجار" في مراسلات عصره. جلبت له رحلاته وكتاباته الشهرة أيضاً، كما يثبت من دلالات أخرى أنه انتخب في الجمعية الملكية سنة 1682. استقر في هولندا فترة كوكيل شركة الهند الشرقية، منصب تبوأه في عام 1684، لكن بعد عودته إلى إنكلترا، كرّس نفسه كثيراً لدراسته الشرقية ومسائل أدبية أخرى.

توفي عام 1713 في الجناح الجنوبي من ويسمنسترال أبي، حيث توجد لوحة تحمل العبارة التالية "السير جون شاردان nomen sibi fecit cundo".

ونعرض هنا مقتطغات من هذه الرحلة المهمة، كما دوّنها السير جون شاردان، يقول مثلاً:

"ثمة ما يدعو للاعتقاد أن الشركة الفرنسية لم تعرف قط ما هي تجارة فارس حين قامت بإرسال مبعوثيها إلى هناك، إذ عند وصول المديرين إلى الهند الشرقية عام 1668، درسوا على أفضل وجه ممكن فوائد التجارة مع فارس، وتوصلوا إلى الحكم بأنها لا تعتبر كافية لإرسال سفنهم إلى هناك، وبالفعل لم يرسلوا أحداً.

جاء مديرون آخرون إلى الهند الشرقية عام 1672: السادة بارون وجيستو وبلوت، وهناك كلام حول إرسال آخرين. ما يجدر ملاحظته أن من بين الثلاثة، كان الأخير وحده من يفهم في التجارة. عين السيد بارون سفيراً لدى المغولي العظيم، وعلى هذا الأساس جرى تكليفه وتوجيهه.

السيد جيستو، الذي فكر في أنه لن يجني مجداً ولا فائدة في سورات، فكر في القيام بحملة أخرى. وفر له رجال الدين الكابوشيون في فارس الفرصة، بتجديد ما كانت الشركة قد حصلت عليه منذ مدة طويلة، والمتمثل في إرسال سفير وهدايا إلى فارس لتصبح في حل من الوعود التي قطعتها على نفسها في السنوات الست إلى البلاط حول هذا الموضوع.

طلب ممثلو الشركة في هرمز وأصفهان المطالب نفسها، قائلين إن الأمر يتعلق بشرف الأمة ومن الضروري تقديم هدايا إلى ملك فارس ووزرائها كمكافأة عن الإعفاء من الضرائب الذي منح لهم، والذي يتمتعون به كلما دعت الحاجة".


السيد جيستو

يعتقد السيد جيستو أنه يملك خلفية جيدة كافية للانطلاق ويبرر بذلك أخذ المشروع على عاتقه، إلى درجة مناقضة نصيحة واحتجاجات تجار الشركة، الذين أخبروه أن التجارة مع فارس لا تستحق الأعباء والمشقة.

نصّب نفسه سفيراً بنفسه، من دون رسائل اعتماد، ومن دون تعليمات، التي قرّر أن يضعها بنفسه عندما يصل إلى المكان، إذ يبدو أنه لم يتوصل إلى قرار لما عليه أن يطلبه، ولا ما ينبغي أن يفاوض عليه في فارس. وصل سورات في أوائل مارس/ آذار 1673 وهو يحمل هدايا ثمينة للملك ووزرائه ومعه كمية كبيرة من السلع لتغطية نفقات الرحلة، لكنه أخذ حاشية صغيرة معه غير قادرة على إجراء أي مفاوضات.

وصل هرمز بعد عشرين يوماً، وانطلق منها بتأنٍّ من دون سرعة ومن دون أن يأخذ الاحتياطات اللازمة لرحلة طويلة متعبة من هرمز إلى أصفهان استغرقت على الأقل قرابة شهر من السفر. بعد بضعة أيام أصيب بمرض وكذلك كامل أفراد طاقمه، الذين توسلوا إليه التوقف في الطريق قليلاً للراحة، لكن من دون جدوى، فلقد عزم على السفر كمبعوث لا كسفير.


نهاية مأساوية

عرض عليه حكام المناطق التي مر منها محفات خيول، لكنه رفض الاستماع إلى أي مما يقولون، خشية دفع النفقات والتأخر أيضاً. شيء آخر عكّر صفوه وسعادة بطانته، وهو الفشل في إقناعه بالخضوع لنظم البلاد واتباعها.

قدم بعد ذلك إلى شيراز، ميتاً أكثر منه حياً، وكل من معه كذلك، بعضهم لم ينهض من فراشه أبداً. ولقد شعر بالعار لرؤية ابنه أول من يموت من جماعته في اليوم الثاني عشر من وصوله. أخيراً قضى هو أيضاً في نهاية اليوم الخامس عشر.

زعم الرهبان الكرمليون، الذين مات في ديرهم، أنه أمر في فراش احتضاره أن يأتمر من تبقى من رجاله وفق مشورتهم ونصحهم، وكان من رأيهم أن على هؤلاء الرجال، الذين أنهكتهم وخفضت عددهم متاعب الرحلة، والذين ليس بينهم رجل بخبرة أو مظهر مقبول، أن يعودوا إلى بلادهم. برروا سبب ذلك لعدم وجود رسائل اعتماد أو تعليمات أو مذكرات دبلوماسية أو أختام سفارة بين أوراق الراحل، لذا من الحماقة المحضة الذهاب وتقديم أنفسهم في بلاط في غاية الدماثة والحكمة مثل بلاط فارس، وإنفاق خمسة وعشرين أو ثلاثين ألف كراون لجعل أنفسهم مضحكة الأمة.

كانت مشورة جيدة، لكنها لم تتبع. لم يجد مترجم السفارة، تاجر فرنسي ولد وترعرع في أصفهان، وهو في الواقع الروح المحركة للسفارة، اعتباراً له في المشورة التي أسداها الكرمليون، فأقنع ربان سفينة وكاتباً في الشركة، كانا من أكثر المسؤولين اعتباراً، بالوقوف ضد المشورة.


تخطي الصعوبات

بعد مداولات عدة توصلوا إلى قرار بإعادة المسألة إلى الكابوشيين في أصفهان ليأخذوا فيها قراراً، رغم تلقيهم رداً قد يستغرق ثلاثة أسابيع على الأقل. كان هؤلاء الآباء الكابوشيون يناصرون آراء السفارة الفرنسية، فلم يرغبوا في دحض الرأي أو تأجيل المسألة إلى وقت آخر، لذا كتب رئيس الدير، رجل واسع المعرفة جيد السلوك يدعى الأب رافائيل دو مان، رسالة جوابية فحواها ألا يفعلوا شيئاً سوى القدوم وأن رسائل الاعتماد والأوامر والتعليمات ضئيلة الأهمية ولن يلاقوا من النجاح ما هو أقل مما كان سيلاقيه الراحل لو ما زال على قيد الحياة: سَرَّتْ هذه الأقوال المشجعة الشركة الفرنسية الصغيرة في شيراز.

استعد الرئيسان، ربان السفينة وكاتب الشركة، سالف الذكر، لارتداء ملابس الراحل وعوملا معاملة السفراء. لم يرفضا الهدية والثروة التي حصلا عليها هناك، وقد وجدا المعاملة في غاية الجودة. انتخب الكابتن، كونه ابن أخي السيد بيريه ليمثل السفير، إذ إن كاتب الشركة كان يحتل المنصب الثاني في الشركة.

لا يمكنني عدم ذكر حادثة لطيفة في هذه القصة وهي أن المترجم الذي ذكرته، دليلهما والمدير المطلق، كان على وشك تنصيب نفسه سفيراً، عوض تقديم مثل هذين الشخصين إلى بلاط مثل البلاط الفارسي. صحيح أنه يملك الوسائل الجيدة والفطنة الكافية للحفاظ على اللقب، لكنه بعد التأمل بالأمر قليلاً، لم يجرؤ على تصور أي سخرية ستكون رؤيته على رأس السفارة، هو الذي كان مواطن البلد، وولد بين الأرمن المعتبرين أدنى طبقة بين الرعايا، وعملوا في الشركة منذ بدء تأسيسها كمترجمين، مهنة الخادم المتواضع.

شكا لي مرات عدة من أن الشيء الوحيد الذي يمنعه من المجازفة كان عدم قدرته على اتخاذ قرار يتعلق بلباسه، أيرتدي ملابس على الطراز الفرنسي أم الفارسي؟ قال إذا ارتديت ملابسي على الطريقة الفارسية، ملابس وطني، ستكون رؤية مواطن فارسي في لباس فارسي يأتي كسفير لفرنسا مع جماعة من الرجال الفرنسيين يرتدون ملابس بلادهم، سخرية لا معقولة!

وإذا ارتديت ملابس رجل فرنسي، قد يركض الأطفال خلفي وتصبح السفارة كلها مجرد حفلة تنكرية! يعطي كثير من الأوروبيين من مختلف الأمم أمثلة على الصفاقة والشذوذ. حين كان هذا السفير قرب أصفهان، كتب رسالة إلى الوزير يعلمه فيها بقدومه وهي الرسالة التي سببت هذا الاستطراد.

أبلغه حال وصول المرحوم السيد جيستو بندر عباس وتوسله في رسالة عاجلة أن يدبر لهما شقة في القصر قرب البلاط، لكنه لم يتلقّ رداً، وقد قارب مشارف المدينة. جدد مطلبه لمعرفة رغبة الملك بخصوص اليوم الذي يتعين فيه أن يعلن عن قدومه على الملأ ويحطّ فيه في المكان. في المساء، كنت مع الوزير حيث قابلت هناك مترجم الشركة الفرنسية، أعني التاجر نفسه الذي كنت أتكلم عنه منذ حين.

أخبره الوزير أنه قدم التماساً إلى الملك باسم السفير الفرنسي وأن جلالته أمر بتوفير قصر له، وتقديم كل حفاوة وتكريم يقدم عادة للسفراء. يجدر هنا ملاحظة أن الأمم الشرقية تدعو كل هؤلاء السفراء، الذين يمثلون الملوك، من دون تلك الألقاب الخاصة والصفات المستخدمة هنا".

دلالات

المساهمون