مئوية مارسيل رانيسكي.. بابا الأدب الألماني

مئوية مارسيل رانيسكي.. بابا الأدب الألماني

03 يونيو 2020
(مارسيل رايش رانيسكي)
+ الخط -

تقيم عدة مؤسّسات أكاديمية وثقافية ألمانية مجموعة من الندوات الاستعادية التي تحتفي بمئوية الناقد الأدبي الألماني البولندي مارسيل رايش رانيسكي (1920-2013)، الذي لقب بـ"بابا الأدب الألماني"، وانهمك لأكثر من نصف قرن بإعادة قراءة النتاج الروائي والشعري المكتوب باللغة الألمانية تأريخاً ونقداً.

اكتسب رانيسكي مكانة، إلى درجة أصبح معها الناقد الأكثر نفوذاً في العالم الناطق بالألمانية في زمانه، وكان يخشاه الكتّاب ويسعون إلى مصادقة منه على أعمالهم فقد كان هذا يعني وضعها في مصاف الأدب الرفيع بالنسبة إليهم.

أما مراجعاته القاسية التي وصفت بـ"المدمرة" أحياناً لكتّاب مكرسين فكانت تمتّع القراء، من حيث أنها جمعت بين الإدانة والذاتية والبراعة الخطابية، مما جعلها من أقوى المراجعات وأكثرها قوة وتأثيراً في حق كتّاب من وزن غونتر غراس، وكان الكاتب الأسترالي كليف جيمس قد كتب مرة: "كل كاتب ألماني حيّ كان يتطلع إلى ثناء راينسكي على أعماله، ولكن ذلك كان من الصعب دائمًا الحصول عليه، ولهذا السبب كانوا يرغبون فيه بشدة".

ولد رانيسكي في بلدة شمال بولندا، وكان والده ديفيد رايش رجل أعمال فاشل، بينما كانت والدته ابنة سلسلة طويلة من الحاخامات الألمان، وبسبب الأزمات المالية، انتقلت الأسرة إلى برلين في عام 1929، وهناك تبنّاه عمه وقدم له الدعم المادي لكي يكمل دراسته.

لكن الظروف وقفت حائلاً أمام تعليم رانيسكي، فبعد اجتياز امتحان الثانوية، تم حرمانه بصفته يهوديًا من الالتحاق بالجامعة ثم تم اعتقاله وترحيله إلى بولندا وحبسه عام 1940 في حي اليهود في وارسو. هناك، في عام 1942، تزوج من تيوفيلا لانجناس وهربا معاً، في حين قتل والديه وشقيقه الأكبر في معسكرات الاعتقال.

في عام 1958 ذهب في رحلة دراسية إلى ألمانيا الغربية ولم يعد أبدًا إلى بولندا، والتحق بالجماعة الأدبية Gruppe 47، وضمت مجموعة من الكتاب الذين يعملون على تجديد الأدب الألماني في أعقاب انهيار الرايخ الثالث.

عاش في البداية في فرانكفورت ثم هامبورغ، وأصبح من أهم المحررين الأدبيين في عدة صحف ثقافية لـ 14 عاماً، ثم أطلق برنامجاً تلفزيوياً تحت عنوان "المربع الأدبي" الذي يعد من أنجح البرامج الثقافية في تاريخ ألمانيا، وقد انتشر خارج البلاد وأصبح يبث على BBC.

من عام 1968 فصاعدًا، وسع اهتماماته من مقابلات الأدباء الألمان إلى محاورة سلسلة من الكتّاب والمفكرين من الولايات المتحدة والسويد وألمانيا، وتم تكريمه بالعديد من الجوائز الأدبية والثقافية والإعلامية، بما في ذلك الدكتوراه الفخرية من جامعات أوبسالا وأوغسبورغ وبامبرغ ودوسلدورف وأوترخت وميونيخ وتوبنغن؛ وحصل على جائزة جوته لمدينة فرانكفورت (2002)؛ والجائزة الأوروبية للثقافة (2004).

كان لرانيسكي علاقات مشحونة مع العديد من الكتاب الرئيسيين في عصره، ومن بينهم ماكس فريش، ومارتن فالسر، وغونتر غراس، وقد أدان رانيسكي بشكل قاس وصريح رواية غراس "حقل واسع" (1995) بل إن مجلة "دير شبيغل" صوّرته على غلافها على هيئة وحش يمزق الرواية بأسنانه.

ومنذ أن ظهر هذا الغلاف، استمر العداء بين الناقد الأدبي والروائي صاحب نوبل، ولكن غراس في مقابلة معه قدم عرضًا للمصالحة مع رانيسكي مشترطاً اعتذاراً عن ما اعتبره تجاوز النقد إلى الإهانة الشخصية، غير أن رد رانيسكي لم يكن أقل عنفاً من رأيه في الرواية، فكتب رسالة نشرت في "دير شبيغل" قال فيها "عزيزي غونتر غراس، رأيت مقابلتك مع فريتز بليتجن- ليس فقط باهتمام متزايد- بل بفرح حقيقي أيضاً. المهم بالنسبة إلي هو إجابتك على سؤال بليتجن إن لم يعد من الممكن توقع المصالحة بيننا. فأجبته: "لا يجب أن تقول ذلك". أنا أعتبر هذا عرضًا ويسعدني قبوله. وشرطك الأول والأهم أن أقوم بسحب انتقاداتي لروايتك "حقل واسع" المنشورة في 21 أغسطس 1995 في مجلة هامبورغ الإخبارية "دير شبيغل". لماذا، أسأل بتواضع شديد، عليّ أن أراجع انتقاداتي؟ يؤسفني شعورك بالإهانة، لكن أحيانًا ما تسمونه الإهانة أمر لا مفر منه في النقد. أنت تقول أيضًا أنني بانتقاداتي قتلت روايتك. عزيزي علي أن أعلمك مرة أخرى: أنت تبالغ في تقديري وتقدير حجم تأثيري. هل تعتقد أنه من المستحيل تمامًا أن يكون لفشل روايتك سبب آخر غيري؟".

امتد حضور رانيسكي ليتحول هو نفسه إلى شخصية في روايات ألمانية، من بينها "تعاليم القديس فكتور" لبيتر هاندكه، و"مذكرات حلزون" لغونتر غراس، وأبرزها رواية "موت ناقد" لمارتين فالسر التي ظهرت عام 2002، وربما تكون هذه من أكثر الروايات إثارة للسجال في تاريخ الأدب الألماني، ليس لموضوعها وطريقة كتابتها وحسب، بل لأن كاتبها انتقد بعنف الناقد الأدبي الأقوى في ألمانيا كشخص، بقدر ما انتقد دوره كرمز لبيئة ثقافية فاسدة.

تحولت الرواية في الصحافة إلى صراع ونقد كبير، واتهمت بمعاداة السامية، ووجدت الصحف طريقة في نسف العمل الأدبي باستعادة ماضي فالسر الذي انضم إلى الحزب النازي وهو ابن السابعة عشرة وكان عمره 17 عاماً، وكان السؤال المهيمن تقريباً على المراجعات هو هل يحق للكاتب، العضو السابق في الحزب النازي، مهاجمة الناقد اليهودي الأكثر شهرة في ألمانيا؟

بمجرد ظهور الرواية، أصبح هذا السؤال موضوع النقاش الساخن في ألمانيا. لم يمر يوم من دون مقال صحافي يتخذ موقفاً مع أو ضد الكتاب، حدث ذلك وبالكاد كان أي شخص قد قرأ الرواية أساساً، إذ لم يوزع منها إلا نسخ محدودة جداً.

رانيسكي نفسه علّق على الرواية في عام 2010 في مقابلة مع "دير شبيغل" قائلاً: "لا أعتقد أن فالسر معاد للسامية. ولكن من المهم بالنسبة إليه أن يثبت أن الناقد الذي زعم أنه أكثر من عذبه ككاتب، يهودي أيضًا. إنه يتوقع أن يتبعه جمهوره في هذا الأمر".

نشر الناقد أكثر من عشرين كتاباً، معظمها في الأدب الألماني، الكلاسيكي والمعاصر له، كما كتب مذكراته في كتاب "حياتي" التي نشرها عام 1999، وتحولت إلى فيلم سينمائي، وتبدأ المذكرات بغونتر غراس يسأل رانيسكي: "هل أنت ألماني أم بولندي أم ماذا؟"، فيجيبه "نصف ألماني".

من أبرز كتبه: "النقد كمهنة"، و"محامو الأدب"، و"القاع المزدوج"، و"أدب الخطوات الصغيرة: الكتّاب الألمان اليوم"، و"توماس مان وعائلته"، و"الأدب الألماني في الغرب والشرق"، و"سبعة رواد من القرن العشرين"، "عش أولاً ثم العب. حول الأدب البولندي"، و"حكايتي. من يوهان غوته إلى اليوم".

المساهمون