حماية التراث.. التدمير بأكثر من أداة

حماية التراث.. التدمير بأكثر من أداة

07 مايو 2020
(الأهرامات من القاهرة، تصوير: خالد دسوقي)
+ الخط -

التراث المعماري في العالم العربي في خطر كبير هذه الأيام. فالحروب بالوكالة والصراعات المذهبية في سورية والعراق وليبيا واليمن دمّرت مناطق حضرية بأكملها وعدداً لا يحصى من المواقع الأثرية وتركت بقية المواقع التي نجت من التدمير المباشر من دون أية حماية حكومية أو مجتمعية أو حتى دولية. أما القلاقل والاضطرابات وغيرها من أشكال الصراع المدني في مصر ولبنان والسودان وتونس والمغرب والجزائر فقد عرّضت العديد من المواقع الأثرية النائية والمتاحف المحلية الصغيرة للفوضى والإهمال وتركتها لقمة سائغة للشبكات الإجرامية الدولية المتخصّصة في نهب وتهريب القطع الأثرية التاريخية.

حتى مصر، حجر الزاوية في المنطقة، التي استكانت إلى نظام عسكري متشدّد تحت ذريعة إعادة بعض الأمن والاستقرار إليها، فهي غير قادرة على كبح ما يبدو أنه نهبٌ منظم لكثير من مواقعها التاريخية، بما في ذلك تلك الموجودة في قلب عاصمتها، وتفكيك وسرقة أو إتلاف محتوياتها الهشة. التراث العربي بمجمله في خطر اليوم ليس فقط بسبب الحروب والتدمير، بل أيضاً لأن نظام الدول الوطنية ذات السيادة النابع من مخطط سايكس-بيكو وغيره من مخططات التقسيم الاستعمارية التي أنتجت حدودنا الحالية يضمحل ويتلاشى، ونحن لا نعرف حتى الآن ما الذي سيحل محله سوى الفوضى السياسية والاقتتال العدمي الذي يسود اليوم.

إن أي نقاش للتراث، والحفاظ عليه، هو بالضرورة نقاش سياسي يرتكز على مبادئ السيادة والمسؤولية والحسّ المشترك. فالتراث يعتمد أساساً، لكي يصبح تراثاً، على شعور بهوية جماعية تنتمي لأرض محددة وتاريخ مشترك. هذا هو بالضبط ما يتم تحديه في العالم العربي اليوم، حيث أصبح التاريخ والجغرافيا محل تنازع وخلاف وإعادة صياغة من قبل مجموعات عرقية أو مذهبية شبه-مستقلة تعمل داخل أو خارج حدود الدولة الوطنية التي لم تعد تعتبر موئلاً للهوية الجماعية. وبالتالي، فقد خسر التراث هويته الوطنية الجامعة وصار موضوعاً للتقسيم وإعادة الترتيب والتخصيص والتعريف وفقاً لأهواء الجماعات المتحاربة على الأرض.

بل إن بعضاً مما كان تراثاً وطنياً يتفاخر به في الماضي القريب قد تم تدميره من قبل هذه الجماعات نفسها لأنها اعتبرته تراثاً أجنبياً أو عدواً أو كافراً وبالتالي لا يستحق المحافظة عليه.
وقد تجلى ذلك بشكل بشع في آذار/مارس 2001 عندما قامت جماعة طالبان بتفجير تمثالي البوذا في باميان مبررة عملها بأنهما من تراث الكفر السابق لتشكل الأمة الإسلامية، وهما بالتالي لا يمتان بصلة لتراث أفغانستان المسلمة. يبدو أن هذه العقلية قد تفشت في المنطقة كلها إذا ما اعتبرنا أعمال التخريب العشوائي والممنهج التي طاولت مواقع آشورية في العراق وفرعونية في مصر وسلوقية في سورية، ونهب المتاحف في جميع أنحاء المنطقة، والقصف الوحشي لمواقع التراث المسجلة دولياً، وتفجير الكنائس والمعابد والمساجد في سورية واليمن والعراق.

كل هذا يوضح أن الظاهرة ليست طارئة أو آنية أو عفوية. وهي أيضاً ليست فقط نتيجة مباشرة ومحدودة للصراع والاقتتال، أو - كما اقترح بعض المعلقين الغربيين - رد فعل أصولياً وبتاراً ضد أنواع الفن المحظور، بشكل خاص التماثيل التي سمّاها مخرّبو "داعش" أصناماً. تدمير التراث له جذور أعمق وأبعاد أوسع. فانتقائية التدمير، ولامبالاة نسبة كبيرة من الناس الذين يتم تخريب تراثهم بما يجري تحت ناظريهم، وتواطؤ العديد من الجهات السياسية الفاعلة، بمن فيها مسؤولون كبار في الحكم، في اقتلاع وتهريب الآثار، لا توحي فقط بأن الحفاظ على التراث ليس من أولويات هذه الفترة، ولكنها تشير أيضاً إلى غموض مفهوم التراث ذاته في الثقافة السائدة والسياسة الصاعدة اليوم.

هذا التطوّر ليس مفاجئاً، على الرغم من أن العواقب الوخيمة المترتبة على انهيار القانون والنظام في معظم أنحاء العالم العربي المرهق بصراعاته الداخلية في العقد الماضي قد جعلت من معالجة مسألة التراث مشكلة ملحة للغاية. ومع ذلك، فإن للمأزق التراثي الحالي تاريخاً طويلاً من الكبوات والهنات خلال مسيرة فكرية وتنفيذية صعبة التي يجدر بنا استرجاعها والتعلم منها. فالتعثر في معالجة مشاكل التراث المعماري في معظم أرجاء العالم العربي لم يأت نتيجة إهمال متعمد أو تخريب مضمر كما يحدث اليوم فقط. على العكس من ذلك، كانت قصة الحفاظ على التراث في دولنا الوطنية في الحقيقة مرصوفة أساساً بالنوايا الحسنة.

فكل الحكومات العربية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عملت على إحياء تراث الوطن على كل الأصعدة بما فيها الحفاظ على تراثه المعماري وإعادة تأهيل أكبر قدر ممكن من معالمه. ولكن فشل معظم هذه الجهود لم يكن فقط بسبب الإهمال والجهل والجشع والتخبّط السياسي الرسمي والاعتماد على خبرات غير مؤهلة، وفي الآونة الأخيرة بسبب صعود أيديولوجية أصولية مدمرة، على الرغم من أهمية كل هذه العوامل.

إن العامل الأعمق هو الفشل الجوهري من قبل القيمين على الثقافة الوطنية في فهم السياق الذي تم فيه استيراد مفهوم التراث من الغرب وزرعه وتسويقه كمؤطّر لهوية وطنية مفروضة، عندما كان تعريف الوطنية نفسها غير مستقر ومدى تطابق تراث الأرض مع هوية حكامها متنازعاً عليه. وقد تم تحدي هذا التطابق من قبل العديد من الفئات العرقية والمذهبية المهمشة ضمن البوتقة الوطنية المفروضة والتي رفضته بالنهاية منتزعة من الأنظمة سيطرتها المعنوية والفعلية على الهوية الجماعية والتاريخ المشترك.

هذه التناقضات المزمنة، ولكن المخبوءة تحت الشعارات الوطنية البراقة، طفت إلى السطح بفعل ثورات "الربيع العربي" التي اندلعت في عام 2011، وبشكل خاص بسبب الاحتراب الذي نشأ بسبب تعثر الثورات، باستثناء تونس ربما، وعسكرة استجابة الأنظمة الحاكمة لها وتدويلها. وعليه فنحن نشهد اليوم حروباً أهلية مدمرة أو أشكالاً مخففة منها في جميع أنحاء المنطقة، وزعزعة للاستقرار السياسي أو عودة إلى الحكم الاستبدادي في معظم بلدان الثورات العربية.

وقد نشأ اليوم أيضاً واقع جديد بسبب التشرّد الجماعي للسكان الذي غيّر التركيبة السكانية للمنطقة برمتها، وأخلّ بالتوازن بين المدينة والريف بسبب الهجرة الريفية الكثيفة إلى المدن المكتظة أصلاً طلباً للأمان. وصارت المدن تعاني من انهيار متسارع لبنيتها التحتية الهشة أساساً تحت وطأة الهجرة الداخلية الهائلة. أما على صعيد التراث المبني فقد دُمرت مدن وقرى تاريخية ومواقع أثرية في كل من سورية واليمن والعراق وليبيا، وظهرت موجة صاعدة من التفكير الأصولي الجديد والمتشدد الذي يرفض الكثير مما كان تراثاً، وربما أيضاً غالبية مفاهيم الحداثة التي على أساسها صيغ مفهوم التراث.

هذه التغييرات المدمرة كشفت بشكل مؤلم التناقضات الصارخة في فهم التراث وعلاقته بالاقتصاد وسياسة الهوية. وهي أيضاً قد بيّنت الحاجة إلى إعادة التفكير بالتاريخ الفعلي والإطار المفاهيمي للتراث ووضع خطة طويلة الأجل تجمع بين التأهيل السياسي والاجتماعي والفكري والحفاظ على التراث والإعمار المادي والحضري في المدن التي دمرت في العراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها، إعمار من شأنه أن يراعي المقوّمات المجتمعية والأخلاقية والتاريخية لهذه المدن وسكانها، ولا يحابي "منتصراً" على "مهزوم" أو مستثمراً على مواطن.


* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

المساهمون