قراءات الطفولة وذاكرتها: كتاب طفولتي الأول والأحبّ

قراءات الطفولة وذاكرتها: كتاب طفولتي الأول والأحبّ

28 مايو 2020
نوفل نيوف
+ الخط -

كلما كبر القارئ صار حجم كتابه أصغر، وسرعان ما تختفي منه الصور الملونة والكبيرة، ولن تكون هذه متاحة إلا في كتب الفن باهظة الثمن، لكن حياة الصور مستمرة في أدب الطفل إلى يومنا، كما تواصل حياة الكتب التي قرأناها صغاراً العيش في ذاكرتنا.

منذ أيام وضع أحد الكتّاب رابطاً على حسابه في فيسبوك لتحميل "قصص المكتبة الخضراء"، وبدا كأن الآخرين عثروا على قطعة من حياة سابقة؛ وأن لكل واحد قصة مفضلة من هذه السلسلة، ولا بد أن لكل واحد قصة ما عن كتاب تعثّر به في سنوات القراءة الأولى، أو أُهدي إليه، أو ربما لا يزال حاضراً في ذاكرته.

رغم ذلك تردد كثير ممن سألتهم "العربي الجديد" من كتّاب وفنانين في الإجابة عن سؤال: ما هو الكتاب الذي أثّر فيك طفلاً، وما زال حاضراً في ذاكرتك؟ بعض من سألنا لم يجب أصلاً، وبدا أن السؤال أصعب من ما توقعناه.

(نوال العلي - العربي الجديد)


في طفولتي كان الموروث، بفرعَيه: الدينيّ القرآنيّ، والشعريّ المصفّي، مرجعي الثقافيَّ الأولَ والوحيد. لم يكن في بيتنا، ولا في قريتي، كتبٌ للمطالعة والقراءة. في الرابعة من عمري بدأت أتعلّم القرآن وأحفظه. في البيت كان إنشادُ والدي، في أماسي الشتاء خاصة، محفوظاته الطويلة من شِعرٍ رفيع بين الزهد والتصوّف. في الحياة اليومية، ولا سيّما بين النساء، كان الحضور الساحر والأقوى، في نظري أيام ذاك، لِما يتردّد على الألسن من أبياتٍ، أو مقاطعَ، أو مشاهدَ من السيرة الهلالية "تغريبة بني هلال" (لم يكن في بيئتي وزمني ذاك أيُّ حضور لـ "ألف ليلة وليلة"، مثلاً).

في عمر الحادية عشرة/الثانية عشرة اقتنيت التغريبة/الملحمة في نسخةٍ قديمة مهلهلةِ الجلد. كانت أثمن هديّة/لُقيَةٍ أفرحتني في حياتي. نقلتني التغريبة من عالم ميتافيزيقيّ، روحيٍّ، متخيَّل، مهيب، إلى عالم آخر: أرجعتني إلى الأرض. إلى واقع فيه بشرٌ أحياء، أبطالٌ خارقون، وعاديّون، يخطئون ويضحكون... إلى معايشةٍ ممتعة. إلى مشاركةٍ بالمشاعر والحماسة والخيبات... كانت التغريبة رواية فتنتني قبل دخولي عالم الرواية، وكانت لي سينما الخيَال قبل أن أعرف الأفلام. كم مرة في المنام كنت واحداً من الهلاليين، أشهد معاركهم وأشاركهم فرحة النصر.

مكتبة المدرسة الإعدادية، في المدينة بانياس، فتحت لي طريقاً جديداً قادني، بعشوائية أو بدافع أجهله الآن، إلى جميل بثينة وأبي القاسم الشابي، ثم إلى جبران خليل جبران والمنفلوطي. أرضى ذلك والدي الذي كان يصدّني عن السيرة الهلالية، ككتاب يعدّه رديئاً لا يليق، ولكنها ظلّت مقيمة في ذاكرتي وقلبي لا تزول.


* كاتب ومترجم سوري

المساهمون