دفاتر صلاح ستيتية الواسعة

دفاتر صلاح ستيتية الواسعة

23 مايو 2020
(صلاح ستيتية في كيوتو اليابانية عام 2011)
+ الخط -

أيّ دفاتر تلك التي كان صلاح ستيتية (1929 - 2020) يخطّ عليها قصائده؟ دفاتر واسعة، لا تشبه بحجمها إلّا كرّاسات الرسم. يقرأ منها قصائده، لا من كتبه المطبوعة. يجلس أمامها، ويقرأ عن مسافة، دون أن يأخذها بيديه. كان يفعل ذلك دون حاجة إلى نظّارات، رغم أنّ عينيه تريان النور منذ سبعة وثمانين عاماً، في ذلك اليوم الذي رأيته فيه. يلقي ويترك يديه طليقتين تتحرّكان مع الكلمات، تُضَمَّان إلى صدره أو تميلان كيَدَين تدفعان الماء. الماء الذي في واحد من أجمل عناوين كتبه: "الماء البارد المحروس".

يسمّي الفرنسيون النصّ الطويل بالنصّ- النهر. صلاح ستيتية، الذي رحل الثلاثاء الماضي، كتب الكثير من النصوص- الأنهار. قصائد تتدفق وتجرف اللغة والأشياء، تدفعها إلى أماكن أخرى، أو إلى أماكنها الجديدة، كما يفعل الشعر عادةً.

على دفاتره الواسعة، تميل يد الرجل التسعينيّ من يسار السطر إلى يمينه. هل كانت، في شبابه الأول، تجوب السطور بالنحو المعاكس، من يمين الصفحة إلى يسارها؟ ربما. ربما كتب بالعربية قبل تحوّله تماماً إلى الفرنسية. كثيراً ما قال إن فرنسيته تمتح من طفولته العربية، من هذه "المخيّلة" ومن هذا "العقل الباطن" - الطافحَين، كليهما، ببحر بيروت وشمس حلب.

في المرّة التي التقيته فيها، قبل خمسة أعوام، لم يحدّثني تقريباً إلّا عن حلب. كانت المدينة مغطّاة بالنار ويحاصرها البرابرة. وكنّا، نحن، في باريس، بعيدين عن أسئلة النجاة وننعم ببذخ الحديث في الأدب والفن. قلت له إنها مدينتي. رأيته متأثّراً. حدّثني عن حبّه لها، وعن زياراته إليها. وذكّرني بنص "رحلة حلب" الذي كتبه إثر إحدى زياراته إليها، مطلع شبابه، قبل عام 1950. ما لاحظته لاحقاً هو أن صلاح ستيتية ما انفك يعود إلى هذا النص خلال سبعة عقود. نشره عام 1953، في مجلة "ميركور دو فرانس" التي كان قد أسّسها للتوّ، في ذلك الوقت، موريس نادو وموريس ساييه. وربما كان هذا أوّل نصّ ينشره بالفرنسية. سيعود بعد نحو أربعين عاماً ليُصدر نسخة موسّعة منه، عام 1991. ثم سيعود، عام 2002، ليشتغل على النسخة الموسّعة.

التقيت ستيتية بمناسبة عرض فيلم وثائقي عنه. كان أحدُ أصدقائي من المشاركين بصنع الفيلم ودعاني لمشاهدته للاطّلاع على حياة الشاعر الحميمية. لقاءٌ نسيه في ساعته، على الأغلب. لكنه بقي في بالي. بيتٌ صغير محاط بالنبات والزهور، في بلدة غير بعيدة عن محيط باريس. طفل صغير جالس في حضن والده الذي تجاوز الخامسة والثمانين حينها. أوراق ودفاتر هنا وهناك. وقيلولة في السرير، في صمت ما بعد عصر صيفيّ. كم عاش ستيتية من صخب ليصل، في سنواته الأخيرة، إلى هدوء كهذا؟

تعطينا مذكّراته، التي نشرها عام 2014، صورةً عن هذا الصخب، وتسمح بالذهاب أبعد من الاختزالات التي تعرفها سيرته، لا سيما بعمله الدبلوماسي. كما أنها تكشف، لي على الأقل، جانباً غير شائع من حياة رجل يُقال إنه محافظ سياسياً وصاحب لغة ميتافيزيقية بعيدة عن الواقع. أعني هنا متابعته للانتفاضات العربية وتحمّسه لها، رغم مخاوفه الكثيرة، التي أثبتت السنوات اللاحقة صوابها للأسف، حول ما قد يجري في هذا "البلد فائق الجمال" الذي اسمه سورية.


* شاعر من سورية

المساهمون