يوسف الحكيم.. يصف القدس ويافا أواخر أيام العثمانيين

يوسف الحكيم.. يصف القدس ويافا أواخر أيام العثمانيين

02 مايو 2020
سينما الحمراء في يافا، 1944 (ويكيبيديا)
+ الخط -

سجل القاضي يوسف الحكيم أخبار مذكراته ورحلاته في فلسطين خلال عامي 1910 و1911م أثناء تسلمه مهام منصبه قاضياً في القدس ثم في يافا. وتمتاز مذكراته بسرد تفاصيل من الحياة الاجتماعية في هاتين المدينتين ورصد لبعض التحولات التي طرأت عليهما مع تزايد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. ولذلك يكتسب نصه أهمية خاصة من بين النصوص العربية التي تطرقت لفلسطين في ذلك الزمن.

ويوسف الحكيم من مواليد اللاذقية على الساحل السوري درس في المعهد الأميركي وفي المكتب الإعدادي الحكومي في مدينته. وفي سنة 1904 عين قاضياً. وتولى القضاء بالقدس ويافا وطرابلس. وفي سنة 1913 عين أميناً عاماً لحكومة جبل لبنان المستقل إدارياً. واستقال سنة 1915 بعد عزم الحكومة إلغاء استقلال جبل لبنان.

وبعد استقلال سورية تولى يوسف الحكيم الوزارة عدة مرات. وقد سجل الحكيم مذكراته ورحلاته وقدّم لها سنة 1964، ونشر الكتاب الذي تضمنها بعنوان (سوريا والعهد العثماني) في سنة 1966م وصدر عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت، وفي التسعينيات صدرت طبعة ثانية من الكتاب عن دار النهار البيروتية.

وقد خصص الفصل الأول من الكتاب لمدينة لقدس الشريف التي زارها للمرة الأولى سنة 1910 ليباشر مهام وظيفته فيها عضواً في المحكمة البدائية. كما خصص الفصل الثاني لمدينة يافا التي انتقل إليها لفترة وجيرة، ثم خصص الجزء الثالث للقدس التي عاد إليها مجدداً.

وصل الحكيم عن طريق البحر من اللاذقية إلى يافا ومنها ركب القطار إلى القدس وباشر عمله في 9 يناير/ كانون الثاني سنة 1910.
ويمتاز وصفه بحشده الكثير من المعلومات ودقته في سرد التفاصيل وخلوه من الحشو.

ولاحظ أن القدس، على الرغم من وجود عائلات عريقة فيها، تسودها حياة ديمقراطية بفضل التعليم وانتشار المدارس. وقال إن قدوم الحجاج والسياح للقدس من مختلف أقطار العالم كان في مقدمة الأسباب لرقي الحياة الاجتماعية وعاملاً قويا في رفع الحياة الاقتصادية.

واهتم المؤلف بالطوائف المسيحية في القدس ولاحظ بارتياح أن المودة والإخاء كانا يسودان بين المواطنين من مسلمين ومسيحيين. ولاحظ أيضاً تعدد المدارس الحكومية والأجنبية التابعة لمختلف البلدان الأوروبية بالإضافة إلى مدارس الرهبان. وقال إن النابهين من الطلاب أتموا التحصيل العالي في جامعات إسطنبول وبيروت.

وقدَّر عدد المسيحيين في القدس من مختلف الطوائف بأربعين ألفاً.. أكثرهم من الروم الأرثوذكس، وقال إن أكثرية الأماكن المقدسة في القدس وكل فلسطين كانت بيد البطريركية الأرثوذكسية. ثم تحدث عن كنائس القدس والمشاحنات التي كانت تجري بين الطوائف المختلفة لأتفه الأسباب، وخاصة أيام الاحتفالات. ولاحظ أن أكثر الزائرين كانوا من الروس الأتقياء. وتحدث عن الأديرة والكنائس والمؤسسات والمدارس الأجنبية التي انتشرت خارج السور، ومنها دير الروس وكنيستهم في جبل الطور، والبناية الفخمة التي أقامها الألمان فوق الجبل وأعدت لنزول الإمبراطور غليوم والأسرة المالكة، ثم وصف المؤسسة الروسية المعروفة بالمسكوبية في الموقع المعروف باسم الميدان إلى الشمال الغربي من القدس، ومبانيها هي أول المباني الحديثة التي شيدت خارج السور حوالي سنة 1856، فقال إنها معدة لاستقبال الزوار الروس ويديرها رهبان وراهبات من الروس أنفسهم ويحيط ببنائها الفخم وكنيستها الكبرى حدائق وكروم زيتون على التلال والأودية. وأعجب الحكيم بالنظام السائد بين سكان المؤسسة والزوار الروس وبجوقة المرتلين في الكنيسة.

وتناول المؤلف بعد ذلك الخلاف القائم بين البطريركية الأرثوذكسية وبين أبناء الطائفة الأرثوذكسية، وهو خلاف ازدادت حدته بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908. وتحدث عن نشاط الشباب العرب، وكان من أبرزهم يوسف العيسى الصحافي المعروف في المطالبة باشتراك العرب في المناصب الدينية وإدارة الأديرة والأوقاف ورفع شأن المدارس الأرثوذكسية.

وتحدث الحكيم بعد ذلك بإيجاز عن المسجد الأقصى ومكانته عند المسلمين، وعن الاحتفال بزيارة مقام النبي موسى، والحادث الذي عكَّر صفو الاحتفال بسبب الحفريات التي أجرتها بعثة أثرية بريطانية سراً في الحرم في تلك السنة (1910) والتي بلغت مسامع المشتركين في موكب النبي موسى فانفجرت المظاهرات والهتافات العدائية ضد أولياء الأمور.

وأخيراً تناول المؤلف الطائفة اليهودية وقال إنها تنقسم إلى سفراد (شرقيين) واسكناج (غربيين). ولاحظ أنه عطف على الشرقيين من هؤلاء (أغنياؤهم المقيمون في أوروبا، وفي مقدمتهم البارون روتشيلد فأسس لهم على نفقته الخاصة المدارس المسماة أليانس (الحلف)).

وقال إن الاسكناج كانوا يتدفقون على القدس وكل فلسطين، واستوطن بعضهم في ضواحي القدس خارج السور. وظلوا محتفظين بجنسياتهم للاستفادة من الامتيازات الأجنبية وندد بالامتيازات الأجنبية التي جعلت الأجانب مقدمين على العثمانيين في ديارهم، وهي الامتيازات التي منحها سلاطين آل عثمان للدول الأوروبية..
وكان من مظاهر هذه الامتيازات دوائر البريد التي كانت تفتحها هذه الدول في المدن العثمانية، ومن جملتها القدس، استقلالاً عن البريد العثماني. وكان بريد القنصلية النمساوية أكثرها رواجاً وشهرةً. وفيما يلي مقتطفات من الرحلة:

يقول الحكيم: "غادرت اللاذقية، على ظهر باخرة إيطالية رست نهاراً كاملاً في مرفأ بيروت، أم المدن الساحلية في سورية اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، ثم سارت ليلاً ورست صباحاً أمام حيفا. تجوّلت في البلدة الصغيرة القديمة، وأهم ما شاهدته فيها ميناؤها الجميل، المبشر بمستقبل زاهر يجعلها مدينة كبيرة وجبل الكرمل الثابت حارساً لها".


بساتين يافا

حول مدينة يافا، يقول إنها "ممتدة على ساحل البحر المتوسط، تحيط بها بساتين وحراج مثمرة لا يرى الناظر نهاية لها، يتمتع المقيم فيها بدفء الشتاء وجمال الربيع والخريف ويحتمل حر الصيف بفضل النسيم العليل الذي يحمل إليها شيئاً يسيراً من رطوبة ماء البحر والحدائق، كان عدد سكانها سنة 1910م، بين مواطنين وغرباء، وجل هؤلاء من اليهود والمهاجرين، يزيد عن سبعين ألفاً من عثمانيين عرب وأجانب، عدا عشرات ألوف الزوار والسياح الذين يمرون بها في طريقهم إلى القدس الشريف وما وراءها. فمدينة يافا أكبر من أكثر مراكز الأولوية وبعض مراكز الولايات في الدولة العثمانية".

أما أهميتها الاقتصادية، فبقول إن الدليل عليها أنها "الميناء الوحيد للقدس، تربط بينهما سكة حديد، تجارتها واسعة وحاصلاتها وفيرة، يشحن من برتقالها المشهور سنوياً أكثر من مليوني صندوق إلى إنكلترا وحدها، وهي كثيرة العلاقات الاقتصادية بلواء نابلس، التابع إدارياً لولاية بيروت. لذلك كان من حق يافا أن تكون مركز متصرفية، لولا أن الحاكم في مرجعها القدس، يحمل لقب المتصرف المستقل المرتبط مباشرة بوزارة الداخلية.

بيد أن الحكومة العثمانية قدرت أهميتها، فجعلت فيها محكمة مختصة برؤية القضايا التجارية، بالإضافة إلى المحكمة المكلفة برؤية الدعاوى الحقوقية والجزائية. ولم تكن شُعَبُ الإدارة أقل مما توجد في أي لواء، فضلاً عن كونها مركز قيادة لواء من الجيش النظامي".


اضطراب الأمن

ويضيف: "يصادف فصل الربيع مواسم الأعياد الدينية لدى جميع الطوائف وإقبال الحجاج والزوار من جميع أقطار العالم إلى القدس بطريق يافا. لذلك كانت الحكومة تصرف قصارى جهدها لتأمين راحتهم وقمع كل بادرة قد تخل بالأمن العام.

وفي أيار سنة 1910م، تولت القدس دهشة لأخبار اختلال الأمن في يافا إثر اغتيال رجل معروف بحسن السيرة يدعى سليمان الحيفاوي، بيد رجل من ذوي النفوذ لم تستطع قوى الشرطة والضابطة الظفر به لالتجائه إلى بساتين (بيارات) الليمون والبرتقال الكثيفة الأشجار، حيث يتعذر الاهتداء إلى من يختبئ فيها إلا إذا بذلت جهود جدية، فذعر سكان يافا وزوارها لهذا الحدث، الذي تلاه بشكل متواصل إطلاق العيارات النارية، من البساتين المحيطة بالمدينة من جهاتها الثلاث على البيوت المجاورة، مما اضطر سكانها إلى إحكام قفل أبوابها ونوافذها بعوارض حديد".

ويتابع قائلاً: "ارتفعت شكوى الأهلين والأجانب معاً من فقدان الأمن في يافا، ونددت الصحف بضعف الحكومة المحلية بإزاء استمرار الحوادث المزعجة وأخذ كل من رجال الأمن والقضاء يلقي على الآخر تبعة اشتداد الأزمة، إلى أن وردت الأوامر البرقية من وزارتي الداخلية والعدلية إلى متصرف القدس بأن يعقد اجتماعاً مع رؤساء العدلية وقادة الأمن العام لإقرار التدابير الواجب اتخاذها، قبل تفاقم الشر.

فأجمعت كلمتهم على وجوب إقالة النائب العام فوراً وإسناد وظيفته إلى يوسف الحكيم، أحد قضاة محكمة القدس. وبعد ثلاثة أيام من اتخاذ هذا القرار، أبلغتني وزارة العدل صدور الإرادة السنية بتعييني نائباً عاماً في يافا وضرورة مباشرتي مهامها بما أمكن من السرعة وتلطفت علي ببيان استعدادها لتقدير ما تراه من جهودي في وظيفتي الجديدة".


صراع حزبي وألاعيب يهودية

حول انقسام أهل يافا إلى حزبين يقول الحكيم: "كان في يافا حزبان رئيسان، يسعى كل منهما لتأييد نفوذه لدى الشعب والحكومة، يتزعم أحدهما آل الدجاني وعمر أفندي البيطار، رئيس البلدية، ويتزعم الآخر حافظ بك السعيد والسادة صادق ومحمد علي والشيخ الصاوي والمحامي راغب الإمام. ومن المؤسف أن يؤدي اختلاف الحزبين إلى التقاطع في علاقاتهما الاجتماعية، على الرغم من اتصاف أركانهما بالثقافة العالية والوجاهة البارزة في حياتهم".

ويوضح بأن الحكومة، بمختلف دوائرها الإدارية والقضائية، عدا بعض الموظفين كانت محافظةً على الحياد النزيه بين الفريقين. ويضيف: "ذات يوم من أيام رمضان المبارك، دخل خنزير يعتني بتربيته صاحبه قنصل إسبانيا منزل فضيلة المفتي توفيق أفندي الدجاني، فغضب أخصاؤه وخدمه من ترك هذا الحيوان النجس طليقاً، فقتله أحدهم فوراً. وغضب القنصل بدوره وشكا الأمر إلى الحكومة، ونقلت الخبر جريدة تصدر في يافا لصاحبها اليهودي الدكتور مويال، وهو صديق حميم للحزب الثاني ومروج له دعايته. ولكن الجريدة ذكرت عنوان الخبر بصورة مسيئة إلى الذوق والأدب".

ويتابع الحكيم قائلاُ: "في منتصف الليل، أيقظني خادم الفندق من نومي بناء على إشارة قائم المقام علي آصف بك، الذي كان ينتظرني في بهو الفندق. فنهضت حالاً وجئت إليه، وكان إلى جانبه قائد الجيش النظامي اللواء عبد الرحيم باشا، الذي جاء يخبر رئيس الحكومة بأن الشعب في هياج بسبب تطاول الجريدة على مفتي الإسلام وبأن تظاهرة كبيرة قادمة تطلب من قائم المقام أن يأمر حالاً بتوقيف صاحب الجريدة اليهودي وحماته اليافيين، مهما علا مقامهم الاجتماعي".

وبعد أن يرى أن "قائم المقام مضطرب من هذا الخبر ومتحير في أمره، لمعرفته أن حماة صاحب الجريدة اليافيين هم أركان الحزب الثاني، المعارض لأركان الحزب القائم على رأس التظاهرة الشعبية، رجوت منه أن يهدئ من روعه ويأمرني حين وصول طليعة المتظاهرين، بأن أخاطبهم بلغتهم العربية مترجماً ما هو مفروض أن يكون قد قاله لي بلغته التركية، وأن يجيب اللواء على كلام سعادته بأنه مستعد لتنفيذ كل ما يأمر به، فوافقاني على اقتراحي. وعلى الأثر، وصلت طليعة المتظاهرين، فإذا هي نحو خمسين ذاتاً يتقدمهم رئيس البلدية عمر البيطار وعبد الله الدجاني، فكررا ما سبق أن قاله اللواء عن هياج الشعب ومطالبته بتوقيف مويال وحماته فوراً".

ويقول: "بعد أن أصغيت هنيهةً إلى كلام الحاكم الإداري، ترجمته بصوت جهوري بقولي: إن الحكومة في يافا تشاطر الشعب، العزيز على قلبها، شديد استيائه مما نشرته الجريدة بالعنوان الخالي من كل تهذيب وذوق والدال على نفس أمارة بالسوء، وهي ستقيم الدعوى الجزائية غداً على الجريدة وصاحبها وحماتها لإنزال العقوبة التي يفرضها القانون على كل مجرم. ولكن الحكومة لا تسمح بأن يقوم الشعب بأدنى تظاهرة في هذا السبيل، لكيلا يقال إنها لم تكن لتفكر بملاحقتهم لولا التظاهرة.

إن الحكومة تعرف واجباتها ولا تقل عنكم غيرةً على الدين ورجاله وعلى الآداب العامة وسترون غداً، لا بعد غد، عملها وتؤمنون بأنها تهتم قبل كل شيء بصيانة الأمن العام والهدوء والسكينة من أي خلل، ولا سيما في هذا الشهر المبارك.
فعليكم، أنتم الوجهاء، إفهام الشعب ذلك ليعود إلى منازله هادئاً مطمئناً، واثقاً من سهر الحكومة على إقامة العدل ومطاردة كل مجرم، بل كل مسيء إلى أمن البلد الأمين. وعليكم أنتم زعماء الشعب، أن تحضروا غداً صباحاً إلى مكتب النائب العام، للإدلاء بما عندكم من إثبات بحق كل من أسهم في الجريمة".

ويقول إن الجمهور انصرفوا شاكرين اهتمام الحكومة بالأمر وعاد السكون والهدوء إلى المدينة. خلافاً لما كان يأمله زعماء التظاهرة من توسط اللواء الطيب القلب وانشرح صدر الحاكم لهذه النتيجة وقضى ليلته ناعم البال.


الحياة الاجتماعية والسكان

وحول الحياة الاجتماعية يقول الحكيم: "كان في يافا طبقة راقية، تعود إلى أسر قديمة العهد في يافا أو ممن استوطنوها لأعمال اقتصادية. ومن أركانها، بالإضافة إلى عمدة الحزبين المتعارضين المشار إليهما في البحث السابق، آل عاشور ونابلسي ودباس وخوري وكساب وروك وآلونو وبيروتي وصايغ وفيعاني ومنطورة وظريفة وعرقتنجي وجلاد وتماري، وقد أحرزوا من حضارتهم وثقافتهم مركزاً مرموقاً في المجتمع. أما عامة الشعب فكانت محرومة في الغالب من الثقافة ومن كل تقدم في الحياة الاجتماعية. ينطبق هذا التقسيم على مسيحيي يافا أيضاً وهم أقلية إلا أن الطبقة الدنيا منهم تتمتع بقسط يسير من الثقافة".

ويتابع: "مما لفت نظري أن عدد اليهود والأجانب مجتمعين يقرب من عدد الوطنيين. أما الأجانب، فمنهم نحو ألفين من شمالي إفريقيا، وجلهم من المغرب والجزائر، يتمتعون بحماية فرنسية ويستخدمون حراساً أمناء في بساتين يافا وضواحيها. ومنهم فرنسيون وإيطاليون وغيرهم من مختلف الجنسيات الأوروبية والآسيوية، يقومون بمهام تجارية ومدرسية وقد امتزجوا مع اليافيين وأصبح بعضهم كالمواطن الأصلي لا يفترق عنه في شيء، كالسيدين بورتاليس وفيليبر المتمتعين بمركز اجتماعي بارز".

وحول اليهود في المدينة يقول: "أما اليهود، فمنهم مواطنون أصليون لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة آلاف، ومنهم الغرباء وعددهم غير معروف بالضبط، لعدم وجود دائرة إحصاء لدى الحكومة، ولكنه يقدر بثلاثين ألفاً في يافا والقدس المجاورة لها، ومنهم المهاجرون من روسيا ورومانيا وألمانيا والنمسا والمجر ومن اليمن والعراق وبعض الولايات العثمانية وشمالي إفريقيا، مما يدل على أن فكرة الهجرة إلى فلسطين كانت هدف يهود العالم، يغذيها كبارهم بمختلف الصور.

وقد ظهر كما يقول الخبراء من اليافيين، أن عدد اليهود المهاجرين إلى يافا قد زاد في العهد الدستوري مما كان عليه في العهد الحميدي بفضل حماية القانون الأساسي حق كل فرد منهم، بالإضافة إلى الامتيازات الأجنبية التي ظلت مرعية في بداية الحرب العالمية الأولى".


وفاء اليافيين

ويلفت الحكيم النظر إلى وفاء اليافيين بقوله: "عليَّ أن أشيد بمكارم أخلاق أهلها وأشير إلى وفائهم ومروءتهم بذكر حادثة واحدة من حوادث عديدة سوف أنشرها في كتاب خاص، مقتصر على نوادر اجتماعية لا علاقة لها بالسياسة والإدارة.

سافر السيد إبراهيم الياس وزوجته من اللاذقية لزيارة الأماكن المقدسة، ونزلا من الباخرة إلى ميناء يافا ودخلا دائرة الجمرك وخرجا منها بسلام، سالكين الطريق الطويلة الضيقة، يرافقهما حمال أخذ على كتفه حقيبتي ثيابهما، قاصدين أحد الفنادق.. وأثناء الطريق قالت الزوجة لزوجها: "ليتنا قمنا بهذه الزيارة حين كان نسيبنا فلان ههنا".

فسمعها رجل تجاوز الستين من العمر، يوحي ظاهره وحديثه الوقار والاحترام. فتقدم منهما سائلاً عن (فلان) وعن عافيته وأخباره، فأجابته: "أنا عمة والدته، وهو بتمام العافية والتوفيق في وظيفته الجديدة بلبنان، وجئت وزوجي لأول مرة لزيارة القدس، بعد أن نستريح قليلاً في يافا".

ظل الرجل يحدثهما حتى وصلوا إلى الطريق المعبدة، فنادى الحوذي الذي استلم الحقيبتين ووضعهما أمامه، ورافق الرجل الزائرين في العربة قائلاً للحوذي! "إلى حي العجمي". ولما وصل بهم إلى المحل المقصود، دفع له أجرته وقرع باب المنزل، ففتحته الخادمة وتناولت الحقيبتين.

ولما دخلوا المنزل، قالت السيدة للرجل: "يا سيدي، لا أرى ما يدل على كون هذا البيت فندقاً". فأجابها: هو بانسيون يؤمن راحة المسافرين أكثر مما يؤمنها الفندق. وبعد تناول الغداء، رافقهما الرجل في نزهة بين ضواحي المدينة، وعاد بهما إلى "البانسيون" حيث باتا بكل راحة واطمئنان. وقبل أن يغادراه صباحاً سألا صاحبه عن الأجور المستحقة عليهما، فأجابهما: "سأقدم قائمة الحساب في المحطة"، وسار معهما إليها ولما أركبهما القطار، ودعهما قائلاً: "كنتما في ضيافة نسيبكما فلان فحين تريانه قولا له يسلم عليك كثيراً صديقك قسطه الخوري".

المساهمون