كلُّ اللغة مجاز

كلُّ اللغة مجاز

18 مايو 2020
مليحة أفنان/ فلسطين
+ الخط -

في مؤلّفات مهمّة لجورج لاكوف ومارك جونسون، أحدها بعنوان "حياتنا في المجاز" - أو "الاستعارات التي نحيا بها" كما ترجمه عبد المجيد جحفة - يطرح الكاتبان فكرة مهمّة لها أبعاد كثيرة لو نتدبّرُ مضامينها: اللغة، أيّ لغة، هي في النهاية تكوينٌ مجازي بالأساس، لأن العقل البشري معملُ مجاز.

يقول الكاتبان: "يلفُّ المجاز حياتنا اليومية، ليس فقط على المستوى اللغوي، ولكن أيضاً على مستوى الفكر والفعل. نظامنا الذهني الذي نفكّر ونعمل في إطاره هو مجازي من الدرجة الأولى في طبيعته". يلي ذلك، أنّه لا يوجد نظام فكري أو أيديولوجي أو خطاب، أيّاً كان مصدره ومستواه، فوق المجاز. الكلام البشري مجاز: يُراد بقولٍ ما شيءٌ آخر. ولن نجافي الحقيقة لو قلنا إن البشر أنفسهم هم قوالب مجازية.

فهُم لم يسمّوا أنفسهم، وغالباً، لم ينتسبوا إلى قضية أو يتبنّوا فكراً إلّا لأنّه من عجين سياقهم، ولم يعرفوا شيئاً إلّا ووقعَ في إطارٍ ما، محدود في نهاية الأمر. وكلّما عرفوا أشياءَ جديدةً وتكيّفوا معها، عادوا إلى ما يعرفونه من تجارب وآفاق معرفيّة سابقة لتساعدهم على اكتساب واستخدام ما هو جديد.

لكن ماذا يعني أن حيواتنا اللغوية مجازية؟ المعنى الأساسي يكمنُ في أنَّ لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، لا كفرد ولا كمجتمع أو نظام فكري، لأنه لا يوجد خطابٌ لغوي، مهما عظم شأنه، قادرٌ على التعبير عن هكذا حقيقة والإلمامِ بكافّة جوانبها مرّةً وإلى الأبد. الذهن البشري، وعلى أهميته، أدنى من أن يمتلكَ حقائق مطلقةً ويُعبّرَ عنها بأدوات تعبيرية مطلقة. من يُنصّبُ نفسه سفيراً مطلقاً ما، سواءَ كان فرداً أو مجتمعاً، هو في النهاية زرّ في آلة أيديولوجية قد تَحسبُ نفسها كلَّ الآلة. وهكذا. الكلُّ لا يستطيع أن يتخلّى عن - أو بالأصح أن يعمل - من دون الجزء، والجزءُ كذلك. نحنُ في واقع الأمر رهائن (أو وكلاء، إن شئت) أجزاء، ولكن أوهاماً من مصادر عدّة تصوّر لنا الأمر وكأننا نمتلك حقيقة مطلقة وأننا أسياد عليها إلى ما لا نهاية.

خلاصة ما سبق أنّنا كلّنا أجزاء في دوّامات مجازية لا تنتهي ولا تكفّ عن الدوران. كلُّ ما في الأمر أنَّ وهم العادات والأيديولوجيات والقوّة الكامنة في هكذا أنظمة منحتنا الوهمَ بأنّنا أصحابُ حقائق مطلقة، وأننا نمتلك لغة لكلّ هذه الحقيقة. بينما الواقع أنَّ أيّ تحليل لغوي في مراد الأشياء سيحيلها كلّها إلى مجازات يُراد منها غير ما يبدو للوهلة الأولى أو ما هو قيد الادّعاء.

إذا كان المجاز مرتبطاً بعادات لغوية وطرق تخاطُب معيّنة بلغةٍ ما، فهذا الخطاب اللغوي يختلفُ من لغة إلى أُخرى. واللغةُ أصواتٌ ورموز ومراتب وجسور، تبني وتهدم وتتطوّر حسبَ من يستخدمها، وحسب المجتمع ومراكز القوى التي تتحكمُ فيها.

هذا لا يعني أنه ليس هناك تفاضل بين كلّ ما يُقال أو يُكتب. لا شكَّ في أنَّ هناك حقائق وعلوماً وهناك ما هو باطل أو خارج عن إطار كلّ معقول. المقصود أنَّ كل حيواتنا مرتبطة بمجاز داخل نظام لغوي متعدّد الوسائط والمقاصد، وهذا النظام اللغوي هو صنيع مجتمعٍ لغوي خاص. ولا يعني هذا أنَّ اللغات والبشر الذين يتكلّمونها في حلٍّ من الاشتراك بأشياء كونيّة يتمّ التعبير عنها بلغات مختلفة بصُورٍ شتى. الكونُ واحد، والطبيعة البشرية بكافّة اختلافاتها الشكليّة تنتمي إلى قوالب مشتركة. المجازُ لا ينفي كلّ ذلك، بل يعبّرُ عنه بصورة تُعمّقه وتدّل عليه. فمثلاً عندما نقولُ فلان وُلدَ في بلدٍ ما، هذه قد تكون حقيقة، لكن هذه الحقيقة مرتبطةٌ بالفكرة والاسم الذي أطلقته جماعة من الناس على هذه القطعة من الأرض قبل آلاف السنين.

ما يُسمّى حقيقةً صنعها البشر، وهنا تأتي الفكرة العبقرية للعالم اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور (ولو دقّقنا الأمر لرجعنا إلى ابن جنّي لأنه أوّل من أشار إلى الفكرة المطروحة؛ حين تحدّث عن أصل اللغة هي "المواضعة"، تماماً كما سيقترح سوسور بعد قرون كثيرة) حين طرح فكرة أصول اللغة على أنها "عشوائية" أو بترجمة أخرى "اعتباطيّة اللغة"، أي أنه، مثلاً، ليس للوردة لسانٌ لتقول أطلقوا عليَّ اسم وردة، وكذلك الحجر، والشجر، والبشر وأسماؤهم، إلخ: هنا فكرة المجاز الذي يعمل في إطاره البشر على شكلِ قوالب مختلفة ليتّخذَ بعضُه شكل الحقائق وبعضُه شكل المجاز المعهود عليه (مثلاً، الوردة كالحجر، فقد تبكي من دون سبب)، بينما في الحقيقة يقع المجاز اللغوي - والأفكار قبل كلّ شيء - ضمن مراتب ومزايا ومآرب مختلفة. وهنا تأتي أهمية قول عبد القاهر الجرجاني: "اِعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدل على سرائرها، ويُبرزُ مكنون ضمائرها".


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون