أن ترسم كإيتيل عدنان وينقذ الجبل حياتك

أن ترسم كإيتيل عدنان وينقذ الجبل حياتك

18 مايو 2020
من أعمال المعرض
+ الخط -

الزمان: 1958، المكان: الممر أمام كلية "دومينكان كوليج" في كاليفورنيا. أوقفت الفنانة التشكيلية الأميركية آن رايس أوهانلون (1908-1998) الأستاذة الجديدة وسألتها: "هل أنت أستاذة الفلسفة الجديدة"، "نعم" أجابتها. "وهل ترسمين؟"، "لا" ردّت أستاذة علم الجمال الجديدة، فقالت آن: "لماذا؟"، فأتى الرد سريعاً ومفاجئاً للاثنتين: "لأن أمي قالت إنني خرقاء Clumsy"، "وهل صدقتها؟".

لم تكن أستاذة الفلسفة الجديدة هذه إلا الشاعرة والفنانة إيتيل عدنان (1925)، والتي تقول إن "هذا السؤال (هل صدقتها؟) حرّرني"، كما أنه كان بداية صداقة بينها وأوهانلون التي أعطتها بعض الألوان والورق وشرعت إيتيل ترسم مربعات ومثلثات وفجأة بدا لها وكأنها عثرت على عالمها الذي كان مفقوداً.

لا يلزم الأمر أكثر من بضعة ألوان، ستة تقريباً هذه هي كل مزاجة عدنان، الجميع يقدم تأويلاته عن الجبل المكرّر في أعمالها وعن السهوب الكبيرة من حوله، الجبل الذي طوله ثمانية إنشات ورأسه مدبّب والشمس تتحرّك من فوقه والمساحات تمتد حوله، ولم يكن هذا إلا جبل تمالبيس في كاليفورنيا.

عن ذلك تقول: "هذا الجبل أنقذ حياتي، لم أشعر أبداً أنني وحدي، لم أشعر أنني في منفى، ربما لأن ذلك الجبل كان هناك وكيفما التفت كنت أراه، وبشكل ما كنت كلما رأيته أشعر أنني في وطني، وأصبح الجبل قطباً محوراً أدور من حوله، أحياناً يفعل شخص بك هذا، لكنني لم ألتق هذا الشخص، حقاً لقد كان هذا الجبل نقطتي المرجعية، وكان جميلاً".

كثيرون قابلوا عدنان، هي ليست امرأة ترفض الصحافيين وكل من قابلها تحدّث عن دماثتها وعن الشعور بالصداقة والقرب الذي تعطيه كل من يدخل إلى بيتها، وفي كل مرة تسأل عن المدينة التي تحب فتقول: "سان فرانسيسكو". هناك وجدت السعادة في التشابه مع الطبيعة وكان بيتها يبعد ثلاثة كيلومترات فقط عن المحيط الهادئ، وهو نفس المنزل الذي كان باستطاعتها منه أن ترى الجبل، ومنه كانت تذهب لتمشي في وادي يوسيميتي، حيث النهر والشلال وآلاف الصنوف من النباتات، ثم تكمل رحلتها إلى الغابات الحمراء حيث الأشجار القانية شمال كاليفورنيا.

لا بد من وصف حركة إيتيل هذه، في المدينة التي عرفت بداية الرسم وأقلعت منها في كتابة الشعر، وبنت هويتها اللغوية واللونية والبصرية، من هنا نرى عالمها المكوّن من فضاء طلق كالذي تصفه، وهي وإن كانت تكتب الشعر جملة جملة كما تشرح، وتتعذب قبل أن تنتهي من قصيدة، إلا أنها ترسم اللوحة وتكملها دفعة واحدة.

يبدو الأمر كما لو أن عدنان تملأ الفرشاة وترسم مجازاً لحركتها في العالم المحيط بها للرحلة التي تقوم بها والتي تعود منها لتجعل منها لوحة، وعالمها كان كله من التضاريس الواضحة، وكأن لا وجود للعالم الحضري في ذاكرتها، أو أنه يظهر ويختفي ولا يظل منه شيئاً معها. لكن عدنان لم تبق على نفسها محصورة في اللوحة بشكلها التقليدي فاشتغلت جداريات من السيراميك، موضوعها هو الطبيعة أيضاً، وقامت كذلك بتصميم المنسوجات.

لإيتيل أيضاً مجموعة كبيرة من الـ "ليبوريلو" Leporello، أي المطويات الورقية، التي انتهى عرض مجموعة كبيرة منها مؤخراً في غاليري "لو لونغ في باريس".

مطويات عدنان ليست بعيدة عن عالمها التجريدي والطبيعة الصامتة والتضاريس الممتد، والخطوط القليلة والألوان المحددة، ولكنها تقدمها كما لو كانت أوكورديون وفي كل صفحة نرى قطعة من عالمها الطويل طول نظرة لا يحدّها شيء.

هناك مطويات رمادية وبيضاء وملوّنة وزرقاء وأخرى بيضاء بخطوط داكنة وقليلة، العشرات منها وكل واحدة لها هويتها وشخصيتها، ولا يخلو بعضها من استخدام المفردات والقصائد المكتوبة للمفارقة باللغة العربية التي لا تكتب بها عدنان أصلاً، ولكنها ترسمها، وكأنها تجد في المطويات هذه المساحة المشتركة بين صديقيها القديمين اللغة واللون، وكأنما هذا الأخير سيكون جسراً تعبره إلى لغتها الأم، أياً كان شكلها.

المساهمون