جزرٌ "شعرية"

جزرٌ "شعرية"

13 مايو 2020
شاكر حسن آل سعيد/ العراق
+ الخط -

حدثني صديقٌ شاعرٌ حديثَ تجربة رواها على مسمعهِ شاعرٌ فلسطيني أقام في تونس زمناً. كانت تجربة ذات دلالة إنسانية بالغة العمق؛ عجوز ريفي بسيط جاء من أعماق الريف التونسي إلى العاصمة سيراً على قدميه حاملا صرّة جمع فيها ما تبرّع به أهل قريته من مشغولات ذهبية، وغايته أن يقدّمها إلى "رئيس المجاهدين الفلسطينيين" حسب تعبيره. ووضع العجوز صرّته وجلس يستريح أمام مكتب ما اعتقد إنه "رئيس المجاهدين" طالباً رؤيته. ولكن هذا الرئيس حسب الرواية امتعض وطلب من القائمين على مكتبه صرف هذا العجوز الذي يلح على رؤيته. فأخذ العجوز صرّته وعاد إلى قريته.

لم يعرف أحدٌ ماذا كان يدور في ذهن هذا القروي القادم من أعماق الريف ليمدّ يد المساعدة لمن اعتقد، هو وأهل قريته، إنهم من "المجاهدين"، ولا أحد عرف ماذا دار في ذهنه وهو يعود أدراجه إلى قريته بعد أن وجد أبواب "المجاهِد" تغلق دونه.

وسألتُ الصديقَ الشاعر:" لماذا لم تلتقط هذه التجربة في قصيدة لك؟ إنها تستحق أن تكون موضوع قصيدة كان يمكن أن تتفوق على كل ما كتبتَ من شعر..". انتفض الصديقُ وصاح مستنكراً: " لا.. لا.. شعري أكثر أهمية.. ثم ما لي ولهذه القصة؟ ولماذا لم يأخذها من رواها لي وهو الأولى بها منّي..".

لم أقل شيئاً، وفضّلتُ الصمت، لأنني لم أكن حتى تلك اللحظة أعتقد إن هناك من يفصل بين تجارب يسمع بها وأخرى يعيشها، أو بين تجربة "الأنا" و "الآخر"، ويقيم جداراً بينه وبين تجارب آخرين لأنهم من جنسيات مختلفة. أو بعبارة أخرى، لأنني اكتشفتُ كم كنتُ ساذجاً حين تأخرت في معرفة أن عوالم الشعر العربي تم تقسيمها كما تم تقسيم الجغرافية العربية، وظهرت جزرٌ "شعرية" لا شأن لها بغيرها، كما هو حال الجزر المالية والسياسية والعائلية.

حدث هذا قبل سنواتٍ قليلة، إلا إن أصداءَ هذه القصة، وردَّ فعل الصديق الغاضب على اقتراحي دفاعاً عما أعتقدَ إنه انتقاصٌ من أهمية شعره، ما زالا يترددان في مخيلتي. أنا لم أنتقص من موهبته بالطبع بقدر ما دهشتُ من إهماله تجربة إنسانية ثمينة وبالغة الدلالة مثل هذه، يتذكرها ويرويها ولا تجد طريقها إلى شعره!

قد أكون فظاً في اعتراضي، ولم يحالفني التوفيق في التعبير عن تثميني لتجربة الريفي التونسي مع "رئيس المجاهدين"، ولكن قول هذا الصديق الشاعر:" مالي ولهذه القصة" أو "لماذا لم يتخذها الشاعر الفلسطيني موضوعاً وهو الأولى بها؟"، هو ما ظل يشغل ذهني منذ ذلك اليوم.

أتساءل الآن، في ضوء ما سمعته من استنكار لما بدا إنه سذاجة مني، هل هناك شروط تحدد نوعية التجارب الشعرية الجديرة بالتفات الشاعر؟ أي هل يشترط أن تكون مما ينتمي إلينا بحكم الجنسية أو المذهب أو اللغة بل وحتى اللون مثلا؟

لا أظن إن تساؤلا من هذا النوع خطر ببال أحد طيلة تاريخ الشعر العربي منذ معلقاته وحماسياته وغزلياته ومراثيه وصولا إلى جولاته الراهنة من أفق إلى آخر شرقاً وغرباً وشمالا وجنوباً. فلا نقاده طرحوا مثل هذا التساؤل ولا شعراؤه ولا جمهوره. ولم يحدث أن أقام أحد حدوداً وموانع وأسواراً بين "أنا" الشاعر وبين "أنت" الآخر، سواء كانت "أنت" هذه أماكن أو بشراً أو تجارب. فيقول شاعر، ذاك أولى منّي بهذه التجربة أو القضية. قد يقول هذا تاجر أو سياسي ، ولكن أن يقولها شاعر! فذاك من العجب العجاب. لماذا؟ لأن ميّزة الشاعر أنه يتخطى هذه الحدود والموانع والأسوار، بين الأجناس والألوان واللغات؛ وميزة الشعر الجدير بهذه التسمية طموحه أن يكون كونياً، أن يكون خطابَ إنسان إلى إنسان، لا خطاب فئة إلى فئة أو قبيلة إلى قبيلة، أو جنس إلى جنس.

المساهمون