مفكرة المترجم: مع جلال بدلة

مفكرة المترجم: مع جلال بدلة

09 ابريل 2020
(جلال بدلة، العربي الجديد)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم.


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
كانت البداية محض مصادفة. لا نُقرّر أن نترجم، الأمر أشبه بمهمة تُوكَل إليك. بدأت القصة بعد أن انتهيت من إنجاز أطروحتي في الفلسفة. كان موضوع الأطروحة يدور حول فيلسوفين (جاك ديريدا وإيمانويل ليفيناس) ترتبط فلسفتهما ارتباطاً عضوياً باللغة الفرنسية. أخذت أفكر كيف يمكن لمترجم، مهما كان ملمّاً ومتمرساً، أن ينقل بعض مصطلحاتهما إلى العربية. ازداد فضولي عندما اطلعت على ترجمة أحد أشهر مصطلحات التفكيكية، وهو "La différance"، والذي بلغ عدد المرادفات العربية التي نُقل إليها حوالى العشرة. كنت أقرأ حينها كتاب جان بودريار بالفرنسية "التبادل المستحيل" ووقعت في حبّه. وعندما نقع في الحبّ، نريد أن نخبر الآخرين. وهذا ما حدث بالفعل. ترجمت أولاً كتاب بودريار ثمّ كتاب ليفيناس "الزمان والآخر".


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ترجمة لي هي: "الحداثة المتجددة. نحو مجتمعات أكثر إنسانية" لعالم الاجتماع البارز ألان تورين، وهو آخر مؤلفاته، وقد صدرت الترجمة عن دار الساقي ببيروت. الكتاب الذي بين يدي الآن بالغ الأهمية، ويندرج ضمن الدراسات الأركيولوجية والجينيالوجية التي تتقصّى ممارسات وتقنيات وأجهزة العنف التي سخّرتها الدول في المرحلة الاستعمارية لاستمرار هيمنتها، وأشكال المقاومة الجسدية التي لجأ إليها المستعمَرون واستمرت تناهض أجهزة العنف حتى اليوم. الكتاب بعنوان "فلسفة العنف" للفيلسوفة السياسية والاجتماعية إلزا دورلان Elsa Dorlin.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- نستطيع الحديث عن عقبات تواجه الترجمة العربية أكثر ممّا تواجه المترجم. فالمترجم اليوم أفضل حالاً بكثير من مترجم الأمس، ومتاحٌ له من المصادر والقواميس والمعاجم والتقنيات ما لم يكن متاحاً للمترجم في الأمس. أدّت هذه السهولة أحياناً إلى ظهور ترجمات متسرّعة. على الترجمة العربية اليوم أن تتجه أكثر نحو الفعل الجماعي والمشترك. وعلى مؤسسات الترجمة أن تفعّل أكثر قنوات التواصل بين المترجمين عبر اللقاءات والمؤتمرات.


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- الترجمة عمل جماعي، ولا يمكن لترجمة من الترجمات أن تنجو بذاتية المترجم وحدها. الذاتية مهمة، بلا شك، وأقصد بها الأسلوب. لكن مهنية المحرر ومهاراته ضرورية أيضاً. والحوار الذي ينشأ بين الاثنين، لا يمكن إلا أن يعود بالنفع على الترجمة ككل.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- حظيت بناشرين متفهمين. الكتاب الأخير لـ ألان تورين كان من اختيار الناشر، وهو كتاب مهم جداً لكلّ دارس أو باحث أو مهتم بالفلسفة وعلم الاجتماع وتاريخ الفكر عموماً. من المهم جداً الإشارة إلى أنّ عنواناً مهماً تُرجِم ترجمة جيّدة تفي بالنص الأصل، سيلقى بكلّ تأكيد ناشراً سعيداً.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- واجهت هذه المشكلة مع ليفيناس. فمن جهة - أو الجانب "الجيد" لديه بحسب جوديت بتلر - أنّه أعطى لمفهوم "الإنسانية"، بمعنى لقاء الأنا مع الآخر وجهاً لوجه، الحق في أن يكون مفهوماً فلسفياً وميتافيزيقياً، أي أوليّاً، ومؤسساً لجميع المفاهيم الأخرى مثل الكينونة والحقيقة والأصل. هناك جانب آخر "سيئ"، ذلك أنّه كرّس مجموعة من المؤلفات ليعطي للصهيونية قواماً فلسفياً، وسخّر مفاهيمه لهذا الغرض. تنقل عنه بتلر قوله إنّ الفلسطينيين "لا وجه لهم". اقترح أحد الفلاسفة، وهو سيمون كريشلي، تصنيف هذه المؤلفات ضمن مرحلة الشيخوخة (وليس النضج). لكن طبعاً المترجم ليس باحثاً، وليس عليه أن يُقرّر وجهة النصوص. قد يكون كذلك، لكن عليه أن يفصل بين الدورين.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- تنطوي علاقتي مع الكاتب الذي أترجم له على مرحلتين. المرحلة الأولى هي مرحلة التماهي الكلّي، أتبنى أطروحاته بصورة تامة، كأنّها أطروحاتي أنا، وأنفذ إلى أسلوبه وأجعل منه أسلوبي أنا. الأنا حاضر في المرحلة الأولى بطريقة قد لا تُرضي الكاتب. أما المرحلة الثانية فتبدأ مع البدء بالترجمة. يبدأ هنا الانفصال عن الكاتب بعض الشيء. وتبدأ عدوانية من طبيعة خاصة. المترجم الذي لا يضع في حسبانه أنّه قادر على كتابة النص الذي بين يديه بأفضل مما كتبه المؤلف، لن يستطيع الاستمرار بالترجمة.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- العلاقة بين الكاتب والمترجم هي علاقة جدلية، لكن يطغى عليها أسلوب الكاتب. مع الأخذ في الاعتبار أنّ الأسلوب الذي للكاتب، المترجم في آن، يتكوّن أيضاً. وتدخل في تركيبته أساليب المؤلفين الذين ترجمهم. قد يصل المترجم أحياناً إلى حالة من الفوضى تنشب في داخله نتيجة تراكب الأساليب. وقد تستعصي عليه للحظات أبسط التعبيرات. المترجم فصامي في طبيعته، فصامي متعدد، أكثر من شخصية وأكثر من واحد. وحده الكاتب الذي في المترجم هو القادر على إيجاد وحدة تنقذ المترجم من هذا الفصام.


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- أُتابع جوائز الترجمة العربية وأرى أنّها تصل غالباً إلى وجهتها الصحيحة. أقترح أيضاً على المؤسسات أن تكرّم المترجمين القدماء، الذين غادرونا. هناك أسماء لها فضل كبير على الترجمة العربية، مثل عبد الرحمن بدوي وإدوارد البستاني وسامي الدروبي وجميل صليبا وآخرين. يُقال الكثير اليوم عن هذه الترجمات، وتنتقد، هذا جيد طبعاً ويُسهم في تطوّر الترجمة. لكنهم سبّاقون ورائدون وينبغي الاعتراف لهم بذلك.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- يزداد الوعي بالدور المؤسساتي في عملية الترجمة. وأرى أن يزداد الاهتمام بالعناوين المختارة. ألان باديو من أهم الفلاسفة المعاصرين، تُرجمت له العناوين الآتية: "موجز ميتابولتيك السياسة" و"في مديح الحب" و"فشل اليسار"، وهي عناوين هامشية، حتى إنّ باديو لا يُعيرها اهتماماً كبيراً. من منّا يعرف أن باديو رياضي وقدّم نظريات وفرضيات مهمة في نظرية المجموعات! من منّا يعرف فلسفته، أي نظريته في الوجود، وإجابته عن سؤال الوجود بما هو موجود! إلى الآن لا يوجد سوى عنوان واحداً مترجم لـ بليز باسكال، الأمر الذي يفسر ندرة أو حتى انعدام الأبحاث حوله.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- عاداتي في الترجمة لا تخرج عن المألوف. لكن أحاول أن أبقى على تواصل مباشر، في أثناء الترجمة، مع النصوص التي تناولت الترجمة تنظيراً من الناحية الفلسفية، نصوص بلانشو وبنيامين وريكور وديريدا. تجد فيها ضالة المترجم. لا نعثر فيها بالطبع على وصفة جاهزة ودليل أو مرشد، لكنها تنظّر للترجمة ليس كمجرّد ممارسة كتابية، بل بما هي وجود في العالم.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- أندم على كتاب لم أترجمه، لـ موريس بلانشو، بعنوان "La Part du feu". خضت في ترجمة الكتاب بالفعل، ما حدث أنّني عندما اقتربت من نهاية الترجمة، انتابني قلق كبير، شعرت بأنّ كلّ هذه الترجمة عبارة عن سوء فهم كبير، ليس سوء فهم للنص، وإنما سوء فهم لمهمة المترجم. موريس بلانشو فيلسوف بوزن هيدغر، ومن الخطأ تقديمه على أنه أديب أو ناقد أدبي فحسب. أطّلع بالطبع على الترجمات التي تقدّم بالعربية عن بلانشو، لن أخوض في مدى دقتها، لكنني أحسدهم، وأسأل نفسي كيف تجرؤوا؟! اليوم الذي سيترجم فيه بلانشو إلى العربية، واسمح لي أن أقول: "بلانشو الحقيقي" سيحدث تغييراً في الثقافة والأدب والشعر والفلسفة والنقد.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
كأي مترجم بتكوين فلسفي، أتمنى أن تنطق نصوص الفلسفة بالعربية نطقاً سليماً. لدي حلم اقترب من أن يُصبح واقعاً. وهو ترجمة جاك لاكان. ستصدر في الأشهر القريبة عن "الفضاء الفرويدي الدولي" ترجمة لثلاثة نصوص مهمة لـ لاكان: النص الأول "أرض النمق أو ليتوراتير" والنص الثاني "أنستانتيا الحرف أو العقل منذ فرويد"، للمحلل النفسي وعضو "الرابطة اللاكانية بباريس" وأحد مؤسسي "الفضاء الدولي الفرويدي"، الدكتور محمد درويش. وأشارك بدوري بترجمة "السيمنار في شأن الرسالة المسروقة".


بطاقة
مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على دكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة. صدر لهُ في الترجمة عن الفرنسية: "التبادل المستحيل" لجان بودريار (دار معابر، 2013)، "الزمان والآخر" لإيمانويل ليفيناس (دار معابر، 2014)، "الإسلام والجمهورية والعالم" لألان غريش (الساقي، 2016)، "فهم الإسلام السياسي" لفرانسوا بورغا (الساقي، 2017)، "جهاد النساء" لفرهاد خوسروخاور وفتحي بن سلامة (الساقي، 2019)، "الهوية والوجود. العقلانية التنويرية والموروث الديني" لـ داريوش شايغان (الساقي، 2019)، "الحداثة المتجددة. نحو مجتمعات أكثر إنسانية" لألان تورين (الساقي، 2020).

المساهمون