أسرار الرمادي

أسرار الرمادي

17 ابريل 2020
فؤاد بلامين/ المغرب
+ الخط -

أكثر الجمل التي تتردّد في وسائل التواصل الاجتماعي هي أن الساكت عن الحقيقة شيطان أخرس، وقد باتت من الجمل الجاهزة التي تشيطن شريحة من المجتمع وتحمّلها المسؤولية عن خيبة الآمال التي فشل أصحاب هذا الرأي في تحقيقها، بسبب أولئك الصامتين، وهناك من يسمّيهم الرماديين، الذين ظلوا متكتّمين عن قول الحق والحقيقة تجاه الظلم والاستبداد.

ولا يُعرف أي الألوان يمكن أن تكون بديلاً لهم، فالمعتاد أن تندّد الثقافة بأولئك الذين يقسمون العالم والبشر والأخلاق إلى أحد لونين متضادَّين هما الأبيض والأسود، فيُقال إنهم لا يرون غير البعد الواحد، ولا ينظرون إلّا في المرآة التي تخصّهم، وفي الغالب فإننا يمكن أن نضع معظم أتباع الأيديولوجيات في صف هؤلاء الذين يقسّمون العالم إلى أبيض وأسود، من دون أن نطلق الآن على أي واحد من بينهم صفة البياض أو السواد.

واللافت أن معظم الذي يحملون التهمة الجاهزة التي يدان بها الرماديون من أي شعب ينتمون إلى أحد التيارين، أبيض أو أسود، أي أننا أمام تزاحم ألوان أو صراع ألوان على التحكم بالإرادة العامة للمجتمع، ولكن الاتهامات تفتقر لأي قدر من التسامح أو التفهم أو تقدير الواقع والظروف في ما يخصّ وضع الرمادي أو الصامت، وكل ما يهمهم هو تمرير الشعار فوق أجساد البشر وحاجاتهم وعواطفهم ومواقفهم وطريقتهم في العيش. والذرائع متوفرة لديهم بكثرة في هذا المجال.

الغريب في الأمر أن معظم الهبّات والثورات العربية في الحقبة التي نعيش فيها قام بها رماديون كانوا حتى ساعة بداية الثورات في معظم البلاد العربية صامتين، بل كنّا نقرأ هجاء لهم على صمتهم من قبل أولئك الذين فوجئوا بـ "ضجيجهم"، وما كان أحد منهم يحلم أو يتخيّل أن تتواجد كل تلك الحشود في ساحات وشوارع المدن العربية، كما احتشدت قبل عشر سنوات.

ولكن بعيداً عن الثورات التي يكون التعبير فيها صريحاً وواضحاً، فإن الشعوب عامة تتخذ طرقاً ملتوية في التعبير عن موقفها من الاستبداد، وفي مطلع كتاب جيمس سكوت؛ "المقاومة بالحيلة"، يقول فاكلاف هافل: "إن من قصر النظر أن تعتقد أن الوجه الذي يعرضه لك "المجتمع" في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح الوحيد". ويضيف هافل: "لا أحد منّا يعرف الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكّان".

ومضمون الكتاب الضخم لسكوت هو تقديم أمثلة من تجارب الشعوب في المقاومة الصامتة، وهو كتاب عن الصامتين وحدهم، إذ يختار الكاتب إحدى القرى في الملايو ليتعرّف إلى الأوجه العديدة الخفية التي تحدّث عنها هافل في معرض تقييمه لمواقف البشر الصامتين، حيث يتعرّض السكان في تلك المنطقة لكل أنواع الاضطهاد الطبقي والسياسي، وهم محرومون من حقوقهم المدنية عامة، ومع ذلك فإن الكاتب استطاع أن يميّز أشكالاً للمقاومة هي سلسلة هائلة من الشائعات والقيل والقال والطرائف والنكات المبتكرة عن الحكّام والمسؤولين سماها: المقاومة بالحيلة. حين تعدّد تلك الأشكال التي يسجّلها الكاتب سوف تراها حولك مختبئة في اللون الرمادي.


* روائي من سورية

المساهمون