في الفردوس المعقّم

في الفردوس المعقّم

01 ابريل 2020
كاظم خليل/ سورية
+ الخط -

انتبه، هي الكلمة التي ترنّ في العالم الضيّق. انتبه عندما تخرج من المنزل، لا تقترب من الآخرين، وإذا كنت مضطراً للاقتراب، انتبه، واترك بينك وبينهم مسافة متر أو مترين. انتبه عندما تشتري من السوبرماركت، إذا كنت تدفع نقداً، لا تنس تعقيم يديك ما إن تستعيد النقود، انتبه من يديك. وعندما تجلس في التاكسي - إذا وجدت تاكسي، لا تلتفت إلى السائق، أبق أنفاسك بالقرب من النافذة. انتبه وأنت في عملك، ألا يصدر عنك وهنٌ، أو أي أعراض مرضية، حتى لا ينظر إليك كمصدر للموت، ينبغي التخلّص منه، أو الابتعاد عنه.

لا مصافحات، لا عناق، لا قُبل، لا ملامسة، لا ربتات على الكتف. باختصار، تجنّب الشكل القديم للأُلفة، حاذر الألفة نفسها حتى تحاذر سلوكها. انتبه من أجل صحتك، دعك هذه الأيام من الآخرين. انتبه بعد أن تستخدم الكيبورد في العمل- إذا بقي لديك عمل تذهب إليه، أن تعقّم يديك، لا لأنك تكتب عن القتل وإنّما كي لا تُقتَل. انتبه، إذا لم تُقتَل لأنّك لم تنصت لآلة التعقيم التي دخلت حياتك الجديدة. سَتُقتَل من الهواجس.

انتبه، وأنت تتصفّح الكتاب الورقي، إنّ الكتب موبوءة، خصوصاً إن كانت في مكتبة عامة. انتبه إلى أنّك تمتلك رفاهية الانتباه، ولم تقصرك الحياة على ممارسة ما لا تحبّ، لم تقصرك الحياة على أن تعيش وسط الحاجة التي تنفي الانتباه بالمبدأ. لديك الرفاهية كي تعود إلى المنزل، ثمّ قبل أن تدخل المنزل. انتبه، وأخبرهم كي يعقموك مثل جرثومة. لن تموت. لا لأنّك لست جرثومة، بل لأنّ عليك كتابة هذه السطور.

أليست الكتابة تلك التميمة التي حمتك في زمن القتل الأعمى. لتطلق الآن من منصتك نداء الانتباه؛ انتبهوا إلى رحابة البيت المعقم، زوجات معقمات، أطفال معقمون، آراؤك معقمة، كلاب وقطط معقمة، الريموت كونترول معقم، اللابتوب في المنزل معقم، الكتب تخصك وحدك، تنقل إليها أمراضك، مثلما نقلت هي أمراضها، المنزل هو الفردوس المعقم. في الخارج الكتب والناس موبوؤون، الخضار والملابس، الجدائل والرخام والأجنحة. انتبه إلى ما انزاح من مفردات الشعر إلى مفردات العيش، وانتبه، قد يحملون لك وباءً من نوعٍ قاتل آخر.

إذا كنت تعيش وحيداً فقد اختصرت سيرة الجميع الآن بأن يعودوا وحيدين. أنتَ إنسان متفوق، لو لديك كلب، لو أنّك أحضرت إلى حياتك كلباً، كم ستكون حياتك لطيفة. لكن انتبه، ما حاجتك للوفاء في هذه الأزمنة، يلزمك قطة، كي تشعرك بالدراما، كي تزعل منك إذا أهملتها وكي تسعى إلى إرضائها، دع عنك فكرة إحضار كلب، وأحضر حيواناً آخر، كي يأتلف مع حياتك المعقمة الخالية. الكلب فكرة رائعة لكنها فكرة نوستالجيّة عن كائنات لا تفارقك. انتبه، هذا لم يعد ممكناً. أنت في عرضة للفراق في كلّ لحظة تتقدم. هل حقاً فاجأتك هذه الحقيقة؟ يا لك من كائن قديم يحتاج إلى الآخرين دائماً.

انتبه، الأزمنة تتغير، لكلّ زمان وباؤه، إذا أردت الحقيقة، لكلّ بلاد وباؤها. استمتع بهذا الوباء الذي يبدو عالمياً، لربما هذه المرة الأولى التي تدخل فيها بلادك الألفية الثالثة، لا تكترث للفقر وانقطاع الكهرباء، لا تكترث لما لا يمكن وصفه. انتبه إلى الوحدة، تأمل هذه الأرض الوحيدة، هذه اللحظة النادرة، قبل أن تعود البشرية، وتسيطر على الزمن. لكن، ألا يداخلك الخوف هذه المرة؟


* كاتب من سورية


استمع للنص مسجلاً

المساهمون