كورونا... ضرب الخيال والواقع معاً

كورونا... ضرب الخيال والواقع معاً

30 مارس 2020
(من لوحة "المنكسرون" لـ إيملي كار)
+ الخط -

إنها لمفارقة عظيمة أن تنظرَ إلى شجرةٍ في أوج زينتها، وتستمع إلى طيورٍ تصدح بأقصى ما في وسعها من غناء، بينما البشر في حالة شللٍ شبه تام أمام فيروس غير مرئي، ويبدو كلّ ما يُفْتَى حوله من ضروب الخيال. لكن تلكَ نواميس الطبيعة لها قوانينها وسعتها، ولا تشاورُ أحداً حين تنقلبُ موازينها الداخلية بناءً على ذرّةٍ من هنا أو هناك توافرت لها ظروف العيش والانتشار. الجميعُ يخضعُ لقوانين البقاء والتكاثر، وها هو كورونا، يجيء ويضربُ الخيال والواقعِ معاً.

هل سيجعلُ البشر المنهمكين برحلة العمر يفكرون أكثر، يحترمون الطبيعة والحيوانات وكل تجليات الخلق المرئية والباطنية؟ أشكّ كثيراً في ذلك. لكن لا بدَّ من وقفات مع علاقة البشر بالطبيعة والكائنات الأخرى، أو في انتظار حياة ما، لأن تلكَ العلاقة المترابطة هي في النهاية ما سيحدّد مصير كوكب الأرض، العظيم والجميل، المتهالك والمُسْتَنْزفُ في آن.

كورونا الذي كَتبَ علينا أن نلزمَ البيوت، وأثار الرعب والحيرة حتى في أعتى القوى، يأتي في وقتٍ يزدادُ فيه التوحش والجشع الإنساني تجاه الطبيعة والبشر تجاه بعضهم البعض.

إن الطبيعة - وبغضّ النظر عن أي أيديولوجية أو نصوص سابقة قالت ذلك - لها قوانين، وهذه القوانين لها سعة معينة، هي مرّنة وشديدة الصبر والتحمل، لكنها تقاوم بوسائل بقاء خاصة بها، لأن كلّ مخلوق، سواءً كان فيروساً أو كائناً حياً، يريدُ أن يحيا وأن يكون.

الأرجح أنَّ البشر سينتصرون على كورونا في نهاية المطاف، لكن هذا الفيروس اللئيم سجّلَ لنفسه انتصاراً في سجل التاريخ الإنساني، فهو أول فيروس، ولن يكونَ الأخير للأسف، الذي يصبح موضوع اللحظة لأسابيع على الهواء مباشرة. كلُّ البشر يشاهدون نفس الأشياء، ويتبعون نفس المناهج: حجرٌ، وأدوات ومكملات تساعد المناعة، وتنظيف، وبحث عن لقاح... إلخ. ما هو واضح أنه من نواحٍ علمية ونفسية وسياسية، الفيروس هو أحد تجلّيات قوة الطبيعة، بخفاياها اللانهائية.

كانت على الدوام الطبيعة والثقافة - إذا اعتبرنا أن هناك ثقافة بشرية واحدة تقوم على تكتلات مجتمعية مختلفة - في حالة انسجامٍ وصراعٍ في وقتٍ واحد. المشكلة أنَّ البشر، كقوى سياسية واقتصادية خصوصاً، جاروا أشدّ الجور في تعاملهم مع الطبيعة. في كثير من بلدان العالم، الحيوانات والطبيعة بشكل عام مسرح للاستهتار وعربدة البشر.

في الصين، منبت الفيروس الذي نحنُ بصدده الآن، هناك عادات كارثية سُجلتْ منذ وقتٍ طويل في ما يخصُّ التباهي بقتل أنواع عديدة من الحيوانات، حيثُ يكونُ هذا مصحوباً باستعراضات سوقيّة مقيتة، وتغيبُ عن ذلك أدنى شروط الصحة والسلامة. ولا يقتصر الأمر على الصين، ففي المنطقة العربية تعذّبُ حيوانات مثل الدواب وتساء معاملتها.

ما أودُ قوله هو أنَّ للطبيعة قدرة وسعة تحمّل، وحياة البشر بحاجة إلى مراجعات مستمرة لكي تخلق توازناً وتناسباً مع الطبيعة، حتى لا تنهد جبال فوق رؤوسنا ولا تلتهمنا المحيطات ولا تنمو فيروسات أخرى مثل كورونا.

طبعاً أفكار كهذه لا بدّ أنّها تحيلنا إلى الثقافات البشرية، خصوصاً في ما يتعلقُ باستهلاك اللحوم بشتى أصنافها. قسطٌ من التوازن بين الطبيعة والبشر يتطلبُ اجتهادات جريئة، وقد تنطلق من منطلقات دينية أو دنيوية (لا بدَّ من لقاءٍ منطقي على أية حال)، لوقف نزيف الأرض وإفساد الطبيعة.

الآن أريدُ أن أنام وصورة شجرة التفاح بذهني في يومٍ دافئ من آذار، وقد كساها البياض والزهرُ الرهيف، وغردت الطيور ورقصت الأرض باخضرارٍ يليقُ بقوة حضورها وفتوتها.

الأمل (وليس اليقين طبعاً) أن الفيروس إلى زوال، لكن هل تحدّ هذه المحنة الكبرى من جشع الدول والنظم الاقتصادية وتعديها على الطبيعة؟


* أكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون