العمى في بيت لحم

العمى في بيت لحم

29 مارس 2020
(يعزل الاحتلال بيت لحم بجدار وبإجراءات الوقاية من الوباء/Getty)
+ الخط -

يبدو المشهد في بيت لحم كأنه مقتبَس من أحد أفلام هوليوود؛ شوارعها فارغة ومُغلقة بالبراميل، وسُكّانها يختبئون في المنازل خلف الشاشات ويتابعون مستجدّات الوباء وتعليمات الحكومة التي عادةً ما تنتهي بـِ "يُرجى من حضرتكم التفهّم أن هذه الإجراءات من أجل سلامتكم".

لا ينقص مشهد المدن الفلسطينية، الموبوءة بكورونا هذه الأيام، غير "عميان ساراماغو" الذين لا يختلف كثيراً ما عاشوه داخل رواية "العمى" عن الأحداث التي تجري في وقتنا الحالي، سوى في نوع الوباء، والظرف السياسي الذي تعيشُه فلسطين كبلدٍ مُحتل.

يبدأ الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو (1922 - 2010) روايته، الصادرة عام 1995، بإصابة شخص بالعمى، لحظة وقوف سيارته أمام الشارة الضوئية وسط الشارع، ليحتشد الناس حول المركبة التي بقيت متوقفة رغم تحوّل لون الشارة إلى الأخضر، فيتضح أنه أصيب فجأةً بالعمى الأبيض.

وبعد انتقال العدوى إلى كُلّ مَن خالط المريض الأوّل، بمن فيهم طبيب العيون ومَن كانوا في عيادته، تُعلن الحكومة متأخرةً عن قرار حجر المصابين ومَن يُشتبه في حملهم المرض في مستشفى للأمراض العقلية، وتبدأ زوجة الطبيب، التي تظاهرت بالعمى لمساعدة زوجها داخل الحَجْر، باكتشاف حقيقة المكان العفِن وغير المُجهّز، ومعاملة قوى الأمن للمحجورين كمعتقلين، ورؤية الشخوص يتعاملون على حقيقتهم بنزعاتهم الحيوانية المتناقضة، وصولاً إلى اكتشاف حقيقة أن العمى أصاب الدولة كاملةً، بمن فيهم الحرس.

بمشهدٍ مختلف بعض الشيء، بدأت قصّة كورونا في بيت لحم صباح الخامس من آذار/ مارس الجاري، بعد أن سُرّبت معلومة لإحدى وكالات الإعلام المحلية بوجود أربع إصابات بـ "كوفيد 19" في "فندق إنجل" (الملاك بالإنكليزية) في بلدة بيت جالا (صارت تسمّى مدينة بعد "أوسلو")، لتتدارك "الحكومة" (السلطة الوطنية الفلسطينية) بعد تكتُّمها بداية الأمر بالإعلان عن إصابة سبعة عاملين في الفندق استقبَلوا وفداً سياحياً يونانياً مصاباً بالفيروس، وفرض حالة الطوارئ على البلاد (المناطق التي تحكمها "السلطة الفلسطينية" بناء على "اتفاقية أوسلو" وتقارب عشرة بالمئة من مساحة فلسطين المحتلة).

ومع حالة تراوحت بين الخوف والصدمة والهلع، تحوّل متلقّو الخبر في فلسطين إلى "عميان ساراماغو" يهيمون في الأسواق فلا يجدون مُعقّمات، بسبب تهافت الناس عليها، ولا كمّامات، لأن التجّار احتجزوا الكميات قبل اكتشاف تفشي الوباء بيوميَن، بغرض الاحتكار والتحكم في أسعارها.

وسط هذا المشهد العجيب، يكتسب الناسُ وجوهَ شخصيات الرواية، فتارةً يأخذ التُجّار وجه ذلك الأعمى الذي يملك مُسدّساً داخل الحَجْر، ويقود مجموعة من العميان للسيطرة على صناديق الطعام للتحكم فيها وابتزاز الآخرين (وإن كان التجّار والشركات التي لم تشبع من الكسب حتى في ظِل هذه الظروف، لم تغتصب المواطنين بعد، مثلما فعلت المجموعة في الرواية بالنساء المحجورات!)، وتارةً نرى التبدّل ذاته في وجوه أعضاء لجنةٍ استلمت طروداً في المحافظة لتوزيع صناديق غذائية، وينتشر الخبر أن أطنان الصناديق قد وُزّعت على جماعتهم البعيدة عن مركز الحَجْر في المدينة، وتارةً كنّا كمواطنين بوجه رجال الأمن في الرواية؛ حين تنمّرنا على يابانيتين في رام الله ونعتناهما بـ "كورونا"، لنُصاب كما الحرس بعدها بأيام.

لا يتوقّف الأمر عند المستوى الرمزي. حتى في دقائق الأمور قبل وبعد الأزمة، كانت صادمةً تفاصيلُ الحجْر المريعة الذي كان مُعدّاً في مدينة أريحا لاستقبال المُصابين، وكانت صادمة أكثر ردود فعل الناس في بعض المُدن حين علموا أن المصابين سيُنقلون من بيت لحم إليهم، فأشعلوا النار وأغلقوا الطرقات، ودار الحديث عن نيّة "الحكومة" نقل المُصابين إلى مستشفىً للأمراض العقلية في بيت لحم، قبل أن يرسو القرار على إبقائهم في الفندق، وبقي المصابون بنفسية المُعتقَل، لمدّة ثلاثة أيام.

ورغم التخبّط في البداية؛ إلا أنّ "الحكومة" استطاعت، لأوّل مرةٍ، أن تحتوي قلق النّاس بعدّة عناصر؛ كالخطاب الموحَّد، والمصارحة بشفافيةٍ عن الوضع القائم. حتى القوى الأمنية الموزّعة على مفترقات المدن تعاملت بإنسانية ورِفق، وهذا ناتج ربما عن قناعتها بأنها تؤدّي ما يعبّر عن احتياجات المواطنين الفعلية، على عكس كثير من الأوقات حين تكون مهمّتهم مجرّد الضبط أو حتّى تنفيذ "الاتفاقيات الأمنية"! ومن ناحية أخرى، لم يخلُ المجتمع من حسّ النخوة، فأرسل مواطنون شحنات غذائية إلى بيت لحم بشكل متواصل.

حاول ساراماغو بخيالٍ مستبصر أن يعالج جوانب في الطبيعة البشرية، فطمس الزمان والمكان والأسماء ليكونَ نصه شاملاً، ولكن ما لم تشمله الرواية هي حال الوباء في زمن الاستعمار والاحتلال. في فلسطين، بدلاً من أن تجمع غريزة البقاء في زمن الوباء بين ثقافتين مختلفتين، يكيّف الاحتلال الإسرائيلي استراتيجيته في قتل الفلسطينيين والتنكيل بهم، مثلما حصل في جبل العرمة قرب نابلس، ونعلين غرب رام الله، والذي اختلف في هذا الجانب أنّ جنود الاحتلال أصبحوا يلبسون كمامات في عمليات القتل والتنكيل، وقطعان المستوطنين يأخذون بإجراءات الوقاية من كورونا في اعتداءاتهم على الأراضي والمواطنين. حتى في سجون الاحتلال؛ فالأسرى معزولون بعد الاشتباه في إصابة عددٍ منهم عن طريق سجّانين مُصابين، فضلاً عن إلقاء سلطات الاحتلال أو أرباب العمل الصهاينة مَن يُشتبه في إصابته من العمّال الفلسطينيين على مفترقات الطرقات.

نقف، ونحن لا نزال في بداية المعركة ضد كورونا، أمام حالة الطوارئ المتصاعدة في الضفة الغربية، والتي قد تطول، ومن خلفها هموم العاملين في القطاع الخاص غير المضمونين بأي تعويض اقتصادي، ونسبة البطالة التي قد تتضاعف، فينطق لسان قارئ الأحداث بلسان زوجة الطبيب المُبصرة: "أيكون العمى مرعباً أم حدّة البصيرة؟".

وإن كانت "منظّمة الصحة العالمية" قد وصفت إجراءات الحكومة الفلسطينية في الضفّة بأنها تفوق ما هو موصىً به دولياً، ولكن ما جعل الأمر مختلفاً في "الضفة الغربية" الفلسطينية، إلى جانب سرعة اتخاذ الإجراءات والخطاب الذكي نسبياً، هو وضعُها السياسي والاقتصادي أولاً؛ فمحافظات الضفّة على سبيل المثال، تحوّلت بحكم توسّع المستوطنات وتآكل مساحات الأراضي، إلى كنتونات مُقطّعة الأوصال يسهل إغلاقها، إضافةً إلى أن "اتفاقية باريس" الاقتصادية المدرجة ضمن ملحقات "أوسلو" أبقت على فلسطين كسوق استهلاكي غير منتج.

وبالتالي ما من شيء يُخشى عليه مقارنةً بالدول المنتجة، زِد على ذلك انضباط المواطنين، والذي تفسّره عوامل كالجدّية والنفسية المتوترة بشكل شبه يومي التي فرضتها الظروف، كالخشية من الموت على حواجز الاحتلال، أو في حادثٍ على الطرق الالتفافية التي فرضتها المستوطنات، ومصادرة الأراضي المفاجئة إلخ.

وهكذا، جاءت الجهات الرسمية لتحتوي خوف المواطنين بـ"معركة مسموحة"، يلتقي فيها همٌّ جامع. وبذلك كلّه، استطاعت حصر أعداد المصابين بشكلٍ ملحوظ، فلم يتجاوز خلال شهر كامل تسعين مريضاً، تماثل 17 منهم للشفاء فيما توفيت مواطنة واحدة.

شعور المواطنين بالامتنان تجاه الحراك الرسمي في مواجهة كورونا ناتجٌ عن عدم الاعتياد على رؤيتها تُحاول القيام بواجبها بشكل جدّي - بغض النظر عن نسبة الصوابية في المحاولات - وكثير من الصحافيّين سقطوا في شِراك المديح غير المُجدي وتعطيل الحِس النقدي لطبيعة سير الأمور؛ فمثلاً، بالإمكان إجراء مقارنة بسيطة بين تحرّك الحكومة الفلسطينية، وتحرّك سلطات الاحتلال التي نشرت وزارتها للصحة تفاصيل وتحرّكات الوفد الألماني المُصاب بالتوقيت والتاريخ، ودعت مَن كان موجوداً في تلك الأماكن في ذلك التوقيت إلى حجر نفسه في المنزل، وتعاملت مع قلق سكّان الداخل المحتل بمعلومات دقيقة، على عكس تصريحات الحكومة الفلسطينية الرسمية التي تكتفي بإحصاء العدد؛ فبالرغم من الإنجاز النسبي، ما زال ينقصنا الكثير.

وإن كانت رواية "العمى" قد شهدت ارتفاعاً في عدد المبيعات عبر الإنترنت حول العالم، ولا سيما في البلدان الأوروبية التي ضربها الوباء، وفي طليعتها إيطاليا، بسبب وباء "كوفيد 19"، إلا أننا نظنّ أن للأبعاد الفكرية والفلسفية والأخلاقية - فضلاً عن الفن الروائي - شأنها أيضاً، في إعطاء قيمة للعمل الذي وضعه واحد من أكثر كتّاب العالم إبداعاً وشجاعة.

كان ساراماغو الحاصل على نوبل للأدب عام 1998 مناصراً للقضية الفلسطينية، وقد زار فلسطين متضامناً عام 2002 مع وفد من الكتّاب العالميين، أثناء موجة الاجتياحات الإسرائيلية، وقد صرّح وقتها أن "ما يحدث في فلسطين جريمة يمكن وضعها في نفس درجة ما حدث في أوشفيتز [معسكر الإبادة النازي]".

في نهاية "العمى"، يبدأ أفراد المجموعة التي قادتها زوجة الطبيب المُبصرة بالتماثل للشفاء، بعد أن أوحى السرد الروائي الذي أن همّهم أصبح جماعياً ومسّت المحبة والأخلاق سلوكهم الفردي. فهل ننجو من كورونا، ومما بعدها، بشيء من ذلك؟

استمع للنص مسجلاً

المساهمون