اللقيمي.. في مدح دمشق ومحاسنها ومفاتنها

اللقيمي.. في مدح دمشق ومحاسنها ومفاتنها

21 مارس 2020
دمشق في رسم من عام 1841(Getty)
+ الخط -

انتشر في المشرق العربي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، نوع من أدب الرحلات يطلق عليه أحياناً اسم (السياحات الصوفية)، وهي رحلات يقوم بها عادة متصوفون زاهدون، اتخذوا الترحال مهنتهم، وزيارة قبور الأنبياء والصالحين هدفهم، والقصد من وراء ذلك الحصول على (المدد) الروحي، الذي يساعدهم على بلوغ نوع من (الانشراح) كطريقة لتنقية النفس وتصفيتها، والسمو بها نحو العوالم السامية العليا.

ومع أن تأثيرات المتصوف الكبير الشيخ عبد الغني النابلسي تطغى على سيّاح القرن الثامن عشر، إلا أننا نجد جذور هذه التجربة الأدبية الروحية في كتاب (الإشارات إلى معرفة الزيارات) للسائح المتصوف علي بن أبي بكر الهروي، الذي طاف على جميع مقامات العالم الإسلامي ومزاراته أيام الدولة الأيوبية ووضع ما يشبه دليلاً لذلك.

أما سياحات أبناء القرن الثامن عشر الميلادي ومنهم مؤلف رحلتنا هذه مصطفى أسعد اللقيمي، فقد امتازت، بالإضافة إلى وصف المقامات والأضرحة، بوصف نادر ومهم على قلته للأوضاع السكانية والحياة العلمية والاجتماعية، وأسماء المدن والقرى والمواضع والمواقع.

ومصطفى أسعد اللقيمي واحد من الشخصيات الصوفية التي اشتهرت في عصرها، وقام بعدد من الرحلات والسياحات الصوفية إلى فلسطين خصوصاً وبلاد الشام عموماً، ووضع أكثر من كتاب في ذلك، لعل أهمها وأشهرها، مقصدنا في هذه المناسبة وهو رحلته: (موانحُ الأُنس في رحلتي لوادي القدس).

ولعل الملاحظة الأبرز، التي يمكن للمرء أن يخرج بها بعد قراءة رحلة اللقيمي، هي تضخم دور المزارات الدينية في حياة الناس، وهو ما يؤشر إلى انتشار الطرق الصوفية، التي شجعت عليها السلطنة العثمانية، عبر الإعفاءات من الضرائب التي كان يتمتع بها الصوفيون. ولكن في مقابل ازدهار المزارات نلحظ خراب الكثير من الأوقاف التي بنيت في القرن السادس عشر الميلادي، على يد الوزراء الكبار أمثال مصطفى لالاباشا وسنان باشا وغيرهم، إبان قوة السلطنة وهيبتها.

والمقصود بذلك تلك الخانات والعمارات والتكايا التي أنشئت على الطرق التي تربط بلدان المشرق العربي في ما بينها، سواء الطرق الذاهبة إلى الحج في الحجاز، أو تلك التي توصل إلى فلسطين ومصر. ومنها خان المنية وخان عيون التجار وخان جسر [بنات] يعقوب وغيرها، من المحطات التي تشير إلى تراجع سلطة السلاطين العثمانيين، وغرق الأقاليم في فوضى أدت إلى تزايد نزعة التمرد لدى الحكام المحليين والعشائريين، والذين كانوا يسعون للاستقلال عن سلطة إسطنبول خلال هذه الفترة، أي أواسط القرن الثامن عشر، وما تلا ذلك من أحداث أدت إلى تدخل الغرب للمرة الأولى منذ الحروب الصليبية، ونعني بذلك محاولة نابليون الفاشلة لإحكام السيطرة على فلسطين عام 1799م والتدخل البريطاني لمنعه من ذلك.

أما دمشق التي استحوذت على عقل اللقيمي، وقرر الإقامة فيها حتى الممات، فلم يظهر شيء من تلك التفاصيل التي برع في نقلها البديري الحلاق في كتابه (حوادث دمشق اليومية)، رغم معاصرة الرجلين، والسبب في ذلك أن اللقيمي كان يعيش في عوالم صوفية، على أجنحة تجلياته وقراءاته وأرقامه وحساباته وألغازه ومعمياته، وهي عوالم لا ترى صغائر الحياة، التي ركز عليها البديري المعاصر له.

ونلحظ تشابهاً كبيراً بين أسلوب اللقيمي وأسلوب أستاذه وشيخه مصطفى البكري الصديقي، من حيث الأسلوب وطريقة سرد المعلومة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على تشبع اللقيمي بكتب الصديقي قبل قدومه إلى بلاد الشام والقيام برحلته هذه، والتي نستطيع أن نقول إن أحد أهدافها كان لقاء شيخه الصديقي، الذي وثق لقاءه باللقيمي في أحد نصوص رحلته (أردان الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان).

ولذلك فقد غلب التكلف على أسلوب صياغة الرحلة بسبب الإصرار على السجع والطباق والجناس، مما أفقد النص عفويته وسلاسته. وقد حاول اللقيمي، بما امتلك من ذخيرة لغوية وبلاغية يُشهَد له بها، أن يتجاوز ذلك باختصار سجع الجمل إلى جملتين لا أكثر، في معظم مواضع النص، ولكن هذا الأسلوب هو أسلوب ذلك العصر، ولم يكن للقيمي تلك القدرة أو الجرأة أو الشخصية المستقلة التي تخوله القيام بثورة على هذا الأسلوب، فقد كان مسحوراً بأسلوب شيخه الصديقي، وبقدوته ومثله الأعلى الشيخ عبد الغني النابلسي.

ومع ذلك فقد قدم اللقيمي نصاً ينتمي إلى عصره، وأغناه بالمراجع التي عبرت بشكل أو بآخر عن ثقافة، ومعرفة بالكثير من المصادر التاريخية والجغرافية والفقهية، تؤشر إلى البيئة التي نشأ فيها كما أوضح ذلك مترجمه المرادي.


قرية سعسع

ولما أضاء القمر وشعشع، قصدنا قرية سعسع، فوصلناها وقت الزوال، وقد سرّت النفس ببلوغ الآمال، ونزلنا بخانها العامر الأنيس، وصلينا التحية بمسجده النفيس، وبه تكيّة بجانب المسجد، تنبيء بعلو همة المجدد، وتجاهها فسقية ماء عذبة الموارد، تروي غليل الصادر والوارد، وبمحاذاته نهر ماء سلساله يتموج، يقال له نهر الأعوج. فجلست على شاطئ ذلك النهر، لأروي القلب وأشرح الصدر، مع إخوان رقة ولطف، وأخدان ذوق وظرف، ندير ما ببيننا سلاف البديع، ونتفكه بثمار روضه المَريع.

فبينما نحن في لذة هذا الخطاب، ونشاءة ذلك الشراب، إذ ورد درويش شريف، ذو أدب وسمت لطيف، فوقف وأبدى التحية والسلام، وطلب الإذن في الجلوس باحتشام، فلما استقر وذهبت عنه دهشة القادم، أخذ ببديع البلاغة ينادم، وأبدى لطائف الأخبار والنوادر، فشنف الأسماع بالدرر والجواهر...

ثم قضينا بقية اليوم بذلك الحمى نحن والقوم، ولما توارت الشمس بالحجاب، أسرعنا بصلاة العشائين نحن والصحاب، وامتطينا من الجياد المتون، ولنا بقرب الديار شؤون.

....


2- رياضات وأزهار

ولما لاحت من دمشق السرادق، المتمنطقة من رياضها بمذهبات المناطق، وتبسمت ثغور أزهارها، وبشرت المشوق بقرب مزارها، طفق الحادي بحسنها يترنم، فأنشد هناك المستهام المغرم: [من الوافر]
ألا زدني ولوعاً بامتداحك محاسن جلق وقت اصطحابك
وزد بالنيربين ولوع قلبي وربوتها فيا حسن اقتراحك
فلما أشرفنا على الثنية . وفاح من أرجائها العواطر العنبرية، أنشد بعض الصحب، فأهاج المغرم الصب: [من الكامل]
وإذا الثنية أشرقت وشممت من أرج الحما أرجاً كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حديثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور

وعندما حيعل المؤذن بالفلاح، ولاح من الأفق تباشير الصباح، وصلنا إلى دمشق المحروسة، التي هي بالأبدال مأنوسة، ووقفنا ببابها الوسيع الرحب، وقرأنا الفاتحة لمن بها من الأولياء والصحب، واستأذنا سراتها في الورود، كما نبه عليه صاحب العهود، ثم سرنا حتى وصلنا المدرسة الشميصاتية، ونزلنا بها بخلوةٍ مراقيها سنية.

...

بعدما قرأت الفاتحة للواقف، السامي الممنوح بعواطف العواطف، وذلك صبيحة يوم الاثنين المفضل، الثاني والعشرين من ربيع الأول، ثم توجهت للجامع الأموي الجامع، الذي ضياء السنا على أرجائه لامع، فإذا هو روض أزهر، وكوكب بالمحاسن أنور، تأسست قواعده على التقوى، وحاز من الجمال المرتبة القصوى.

.....

3- قرية المزّة

وفي صبح يوم الأربعاء ذي التهاني، غرة ربيع الثاني. دعاني بعض الأعزة الأحباب، للتنزه بدوح المرجة المستطاب، فأجبت دعوته امتثالاً، ولسان الحال ينشد ارتجالاً: [من البسيط]
انهض إلى المرجة الفيحاء مبتهجاً
ونزه الطرف في أرجاء دوحتها
أما بها الروضة الغناء قد جليت جلي المليحة في ورديِّ حلَّتها

فوردنا حماها الزاهي البهيج، وانتشقنا شذاها الزاكي الأريج، ولاحت لنا لوائح النجاح، بزيارة ابن عساكر وابن الصلاح، فوردنا سوحهم الزاهي الأنفس، واستمددنا مددهم الوافي الأقدس، ثم لما استحلينا من الزمان مزّة، فتشوقنا إلى التوجه إلى قرية المزّة، ثم توجهنا إلى الربوة والمنشار، وعز المقسم للسبعة أنهار، فارتوى القلب بسلسالها، وروي حديث الشهد عن عسالها، وسرحنا الطرف في تلك الأدواح، وشرحنا الصدر بمروّحات الأرواح، وانتشقنا شذا عرف الزهور، وانتعشنا بصفاء مياه النهور، وشربنا من المسرات حالي صرفها، على مطربات الحمائم بجنكها ودفها، فهناك أنشد لسان الصب وأقسم، على حسن هذه المشاهد بالربوة وعن المقسم: [من الكامل]
قسماً سما حسناً بصدق المقسم
بالربوة الفيحا بعز المقسم

الشام يزهو بالمشاهد حسنها فلها بسامي الحسن فضل تقدم
ففياضها قد وشحت بأزاهر ورياضها أهدت لطيف تنسم
وبدوحها ورق الحمام صوادح ببديع ألحان ولطف ترنم
فبمائها ورياضها وهوائها وقيانها للصب حسن تنعّم

....


قلعة دمشق

ثم ثنينا العنان إلى نحو المدينة، إلى أن وصلنا إلى القلعة الحصينة، فدخلنا حمى حرمها الأمين، برداء الأدب والسكينة متوشحين، وقصدنا زيارة الصحابي الجليل أبي الدردا، وأدينا له من آداب الزيارة ما يؤدى، وقرأنا ما تيسر من الكتاب العظيم، واهديناه لجنابه العالي الكريم، ورجونا لمحة من لمحاته، وتشرفنا لنفحة من نفحاته، عسى نشتفي بحكمه البهية، ونتيقظ بمواعظه السنية، فكم له من مواعظ وحكم، تشرح الصدور وتنفي السقم.


دار الحديث الأشرفية

ثم أسرعنا بالسير الحثيث إلى أن وصلنا دار الحديث التي كان الإمام النووي بها يحدث عن المصطفى، فكم أطلع بها مشارق الأنوار بحديث الشفا.

......

4- محاسن دمشق

وقد كنت خلال تلك الزيارات، وتفيؤ ظلال الأنس والمسرات، اجتلي محاسن دمشق البديعة، وأتحلى بشهد مشاهدها الرفيعة، فإنها قد توشحت بوشاح الجمال، وتزينت بعقود البهاء والكمال، وناهيك بجوامعها الجوامع، ومدارسها الزاهية اللوامع، وحماماتها الحسنة ورياضها، ومنتزهاتها البهجة وغياضها، وأسواقها الظريفة الكيان، وعماراتها المشيدة البنيان، وتقسيم مياهها أحسن تقسيم، على الأماكن بالضبط والتسهيم، ودوام الفواكه والثمار، والمحمضات والخضراوات والأزهار، وتيسير أسباب التعيش والمعاش، وتيسير مسببات التريش والرياش، وتنعماتها الدانية القطاف، وكم وكم لها في منهج الحسن أوصاف. [من الوافر]

دمشق الشام في وصف تسامت
فكم يحوي رباها من محاسن
بها الأزهار دانيةٌ قطافاً كذا الأنهار ماء غير آسن
فكم سرحت الناظر في مدرسة وجامع، لاسيما المسجد الأموي الذي هو للحسن جامع، وشرحت الخاطر ببعض منتزهاتها الحسان، المضاهية والمحاكية فراديس الجنان، وتروحت بشذا عبير أزهارها، وتفكهت يجنى يانع ثمارها، وتنعمت بأحسن حماماتها، التي عذب ماؤها، وحسن للصب بها هواؤها، ومررت بأسواقها المحكمة البنا، وتحليت بمشاهدها التي ليس عنها غنى، واجتليت من آفاقها شموس عبّاد، فاقوا في السيادة ملوك عباد، ورويت القلب من ظمأ الجهد والآلام، باجتماعي بأفراد من علمائها الأعلام.


الحنين إلى الوطن

وأنا مع ذلك اتقلب على بسط التهاني، وأرتع في رياض الأمن والأماني، لا أتفكر في الانتقال، ولا يخطر مني السفر ببال. فبينما أنا في روضة طاب بها المقيل. متفيئ بفيء ظلها الظليل، انتشق نسيم الشفا من صبا رَوحها، وأقتطف زهور الصفا من ربا دوحها، إذ سمعت صوت ورقاء على فنن، بعثت الذكرى وحركت الشحن، فحنوت لأحبتي ومربع أوطاني، وحننت إلى جيرتي ومرتع أخداني.


طريق العودة

ففي يوم الخميس ثاني ربيع الثاني عام وجدي وولعي وتحرك أشجاني، طلعنا إلى الوادي المستطاب، وقد صاحبنا للوداع بعض الصحاب، فوقفنا في مقام الوداع، وقد نثر منا عقد الاجتماع، ولعمري كانت أوقاتها مواسم، حيث ثغور التهاني برباها بواسم، أماني نفس ما علمت قيمتها، ومغاني أنس ما نسيت لذتها، ولله در من حرك بالقلب أشجاناً، إذ جعل لياليها للمسرة عنوانا. [من الوافر]

وكانت في دمشق لنا ليال
سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ التهاني وعنوان المسرة والأماني
وبينما أنا أتلهف وأتحسر، إذ مررنا ضحوة النهار على قرية دمّر، وقد أحاطت بها الأنهار، كما يحيط بالمعصم السوار، وتبرجت رياضها الأنيقة، وتأرجت زهورها العبيقة، ورقت صوادح الأطيار، تخطب فوق منابر الأشجار، فأشجاني حسن منظرها، وأهاجني طيب مخبرها، فرمت بها المقيل، لأتفيأ بظلها الظليل، وأستروح للطف نسائمها، وأترنح لصدح حمائمها، فلم يوافق أولئك الرفاق، فأنشدت والدمع والمطايا في استباق: [من الطويل]

مررنا صباحاً والصحاب بدمّر وزهر الربا من عرفه الطيب ينفح
وأدواحها تزهو بميل غصونها إذا ما بها ورق الحمائم تصدح
فأشجت فؤادي المستهام لأنها لمتن غرامي بالصبابة تشرح
فرمت انعطافاً نحوها بتعطف لعل فؤادي ساعة يتروح
فما وافقت تلك الرفاق وأسرعت تحث المطايا نحو صيدا و تكدح

......

فأشغلت الوقت بمفاكهة وأيناس، إلى أن وصلنا وقت الظهر قرية الديماس، فنزلنا بواديها الأبهج الفياح، بدوح مشهد به ضريح بعض أهل الصلاح، فأقمنا به نتفكه بمسامرة الأخيار، ونتحلى بمناشدة الأشعار وتوارد الأخبار.. وما زلنا في أنسٍ وسرور، إلى أن تلا الفجر آية النور، سرنا نحو خان الضهر الأحمر، فوصلناه ظهراً، وقد تدبج رباه بالأخضر والأصفر.

دلالات

المساهمون