محمد عمارة.. جسر إلى عصر النهضة

محمد عمارة.. جسر إلى عصر النهضة

02 مارس 2020
محمد عمارة وفي الخلفية صورة لجمال الدين الأفغاني، 2017
+ الخط -

لسببَين على الأقل، يجد متابع الحياة الفكرية العربية المعاصرة نفسَه وقد تقاطع مع مدوّنة المفكّر الإسلامي المصري محمد عمارة (1931 - 2020). يتمثّل السبب الأول في كونه مثّل الامتداد المباشر لشقّ أساسي من أعلام عصر النهضة، أولئك الذين اعتبروا أنّ استعادة الأمّة العربية الإسلامية لموقعها كفاعل في التاريخ تكون في الأساس بعناصر من داخلها، استناداً إلى التراث وفهم أعمق للدين، مقابل أطروحة الاستئناس بالنموذج الغربي، ولكليهما وجاهته وحججه.

وفي هذا الإطار يمكن الحديث قبل كل شيء عن محمد عمارة كمحقّق وكاتب سيرة، ثم كمقدّم لمحاولات تطوير فكرية أو محاورات مع رموز تلك المرحلة التاريخية. وهنا يمكن استخلاص ما يشبه موسوعةً لمفكّري عصر النهضة داخل مجموعة كتابات عمارة؛ من ذلك جمعُه وتحقيقه لمؤلّفات رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقاسم أمين وغيرهم.

أمّا السبب الثاني، فيتعلّق بمحاولته الموسّعة لإعادة قراءة المعرفة من زاوية إسلامية ودعوته لبناء منهجيات بحث تستند إلى مسلّمات تضرب جذورها في التراث الديني الذي كان لا يرى له أي تعارض مع العلوم الحديثة. وفي هذا الصدد، لامست كتاباته مجالات متنوّعة من التاريخ إلى الفن مروراً بالفكر السياسي والاقتصادي والحضاري والعلوم الدينية، ولعلّه هنا صاحب أضخم مدوّنة عربية في هذا الاتجاه. نذكر من مؤلّفاته هذه: "الإسلام والفنون الجميلة"، و"الإسلام وفلسفة الحكم"، و"الحملة الفرنسية في الميزان"، و"الإصلاح الديني في القرن العشرين"، و"معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام". لكن إلى أي مدى نجح في هذا المشروع؟

صبّت في تكوين عمارة - الذي رحل يوم الجمعة الماضي - مؤثّرات معرفية كثيرة يبدو أنها هي التي أتاحت له لاحقاً هذا الانتقال بين المباحث والميادين، حيث تأثّر في بداياته بالنزعة الوطنية التي سادت مصر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي تقابل مرحلة التحصيل المعرفي لديه؛ حيث درس اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم اتّجه إلى دراسة الفلسفة ومنها انتمى لفترة إلى الفكر الماركسي قبل يقترب من دوائر الفكر الإسلامي، ويصبح أحد أبرز أسمائه، خصوصاً على مستوى الكتابة السجالية داخل الحقل الفكري، وكان هذا الدور سبباً في لمعان اسمه.

خصّص عمارة الكثير من أعماله لمجادلة التيارات العلمانية حول قضايا كبرى في مصر والعالم العرب، كما في كتبه: "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام"، و"الفتوحات الإسلامية تحرير أم تدمير‬"، و"خطر النزعة التاريخية على ثوابت الإسلام"، وهي أعمال لا تُقرأ إلّا في سياقها ويصعب الخروج منها بفوائد معرفية كبرى، وإن حمل هذا النوع من الكتابة في مدوّنة المفكّر الإسلامي خصوصيةً تتعلّق بكون عدد من حججه يمسّ المسلّمات والفرضيات العميقة للتيارات التي يردّ عليها.

تجدر الإشارة إلى أنَّ جزءاً من مدوّنة عمارة خصّصه لأحد المحاور التي اشتغل عليها الكثير من أسماء عصر النهضة، وهو تفنيد الشبهات ضدّ الإسلام؛ فاشتغل على ما يتداوله الاستشراق في حقول السياسة وحقوق الإنسان والحريات ومكانة المرأة الاجتماعية. لعقود، وجد هذا النوع من الكتابة طلباً كبيراً من القرّاء، ولعل هذا السبب هو الذي يفسّر كثرة مؤلّفاته في هذا الاتجاه واتسامها بكثير من التبسيط.

حيال هذا الواقع الثقافي العام، بقي عدد من مؤلّفات عمارة في الظل، ولعلّ تلك المؤلّفات بالذات هي الأكثر دسامة ومضياً نحو إشكاليات عميقة في الثقافة العربية المعاصرة، مثل: "الاستقلال الحضاري"، و" نظرة جديدة إلى التراث"، و"الانتماء الثقافي"، و"تيارات الفكر الإسلامي".

هذه الإشارة إلى خصائص مقروئية هذا المفكّر الإسلامي تفتح على قضايا أساسية في مجتمع المثقّفين في العالم العربي، فمع محمد عمارة نقف على نموذج لمثقّف مثابر يكرّس معظم جهوده للدفاع بالحجّة العقلية عن الإسلام، وقد لا ننتبه إن كان هذا الدور اختياراً بالفعل أم أنّ سياقات المرحلة - من منظومة النشر إلى شرائح القرّاء - قد حصرته في هذا الخطّ دون غيره.

دلالات

المساهمون