"في انتظار عمر قتلاتو": تعريفات بصرية للجزائر

"في انتظار عمر قتلاتو": تعريفات بصرية للجزائر

28 فبراير 2020
(تفصيل من "فالتز الأحد" لـ مراد قْرينة، من المعرض)
+ الخط -

كثيراً ما نجد في الفنّ الجزائري المعاصر حضوراً متعدّد الوجوه للماضي، إذ إنَّ أحد أبرز محاوره محاولة الفنّانين إعادة صياغة ما محاه الاستعمار، وما جرى السكوت عنه بسبب تمزّقات ما بعد الاستقلال وآلام العشرية السوداء. وتُظهِر أعمال الفنّانين الذين ظلّوا في الجزائر أو هاجروا منها عن طبقات متراكمة من الذاكرة الاستعمارية تتجسّد في تمثيل الصور والعلامات المحفورة في الوعي الجمعي للجزائريّين.

لكن هل يمكن اختصار الفن الجزائري اليوم في علاقة الفنّان بتاريخ الكولونيالية الطويل؟ ألا يكون ذلك شكلاً من الهيمنة المستمرّة للغرب على راهن الفن المعاصر؟ ذلك من أسئلة كثيرة تثيرها الأعمال التي يحتضنها حالياً "غاليري والاش آرت" التابع لـ جامعة كولومبيا في نيويورك، تحت عنوان "في انتظار عمر قتلاتو: فن معاصر من الجزائر وشتاتها"، والمتواصل حتى 15 آذار/ مارس المقبل.

اختارت القيّمة على المعرض، نتاشا ماري لورنس، هذا العنوان بما يقترحه على المتلقّي من أسئلة مختلفة؛ فمَن هو عمر قَتلاتو؟ وأين هو؟ ومن الذي ينتظره ولماذا؟ ثمّ ما علاقته بالفن المعاصر؟

تعود لورنس إلى كتاب لـ وسيلة تمزالي (1941) صدر عام 1979، يحمل عنوان "في انتظار عمر قتلاتو"، وكان العمل يتناول السينما الجزائرية، ومنها فيلم مرزاق علواش "عمر قتلاتو الرُّجلة" الذي ظهر عام 1976، وفاز بفضّية "مهرجان موسكو الدولي السينمائي". كان فيلم علواش منعطفاً في تاريخ السينما الجزائرية في ما يتعلّق بالمضمون؛ إذ لم يتطرّق إلى الثورة والاستقلال، بل فكّر في جزائر السبعينيات، من خلال شخصية شاب في عالم مهمَّش.

بمزجها عنوان فيلم علواش مع عنوان مسرحية صاموئيل بيكيت الأشهر "في انتظار غودو"، كانت تمزالي بشكل ما تعيد التفكير في الشخصيات في عالم السينما الجزائرية، فهي تنتمي إلى شخصيات "ضد - البطل" بمعناه التقليدي، وهي أيضاً تعيش محاولة مستمرّة لفهم حياتها اليومية التي تبدو شديدة التعقيد.

عمل لـ جمال طاطاح (من المعرض)بعد أربعة عقود، تعود لورنس إلى فكرة تمزالي فتستعيرها وتعيد تطبيقها على الفن الجزائري المعاصر، مقدّمةً مفاتيح مفاهيمية جديدة ليفهم المتلقّي كيف يقارب الفنان الجزائري اليوم تاريخ بلاده قبل الاستعمار وبعده، سواء كان يعيش داخل البلاد أم أنه يقيم في المهجر. هكذا تجمع فنّانين يشتركون في الهوية الأم بينما تختلف مشاربهم الأخرى، الثقافية والبصرية، إلى جانب قناعاتهم والمنظور الذي يتأمّلون به اليوم تاريخ بلادهم.

"كلُّ فنّان في هذا المعرض لديه فكرته وفهمه الخاص لما هي الجزائر"، تقول الفنّانة المشاركة لويزا باباري في مقابلة معها، مضيفةً: "من المهمّ تمثيل الجزائر بما هي عليه من تعدُّدية وتنوّع وتركيب معقّد".

"طنجرة ضغط" لـ عادل بن تونسيفي عمل تحت عنوان "طنجرة ضغط"، يقوم الفنان عادل بن تونسي برسم أزرار لوحة المفاتيح على طنجرة ضغط، على كلّ زر ثمّة حرف من العربية وآخر من الفرنسية. داخل لوحة المفاتيح هذه كلُّ ما جرى طهيه في الهوية الجزائرية من الثقافتين، إنها أيضاً حالة مستعدّة للانفجار في أيّة لحظة ضمن تعبير عن هذا التنقّل اليومي بين لغتين وثقافتين ومحاولة التفكير فيهما معاً.

تعلّق الباحثة الأميركية بيتي سوهيرتز على المعرض، على موقع الغاليري الرسمي، قائلة: "حين تفكّر في شمال أفريقيا فإن أول ما يخطر لك هو المغرب ثم تونس، وتالياً الجزائر، لأننا نسمع عمّا يحدث في تونس والمغرب فنياً، لكننا قلّما نعرف عمّا يحدث في الجزائر، وهناك سبب سياسي لذلك، والمعرض يحاول أن يكسر بعض الحواجز التي تقف أمامنا وأمام هؤلاء الفنّانين، ومن ثمَّ فهم مصادر هذا الفن وعن ماذا يتكلّم".

"ذراع الكاردينال" لـ فيصل بغريشفي عمل آخر بعنوان "ذراع الكاردينال"، يقدمّ فيصل بغريش تجهيزاً يمثّل نسخة من الجزء المفقود من تمثال برونزي أُقيم في "كنيسة نوتردام الأفريقية" في الجزائر العاصمة، ويعود تاريخُه إلى عام 1920، ويمثّل الكاردينال لافيجيري الذي أتى مبشّراً إلى أفريقيا ومكث في الجزائر وتتضارب الروايات حول سيرته، غير أنَّ الفنّان يستخدم اليد كتجسيد للسياسة الاستعمارية الفرنسية في أوائل القرن العشرين.

من الأعمال اللافتة أيضاً تجهيز الفيديو "جثة الجماهير" للفنانة هاليدا بوغريّط، وسلسلة من ثماني عشرة رسمة على ورق لحكيمة الجودي بعنوان "الملك الرصين، كآبة الملك، الملك المنكوب"، وتجهيز "ذكرى غابة، في الصحراء اضطررت للاستسلام" لكريم غلّوسي، وفيديو رقمي لمنير غوري بعنوان "حطام السفينة". وبالطبع يحضر في المعرض العديد من الأعمال التي تخاطب أسئلة المرأة الجزائرية اليوم، فنجد بورتريه ذاتياً فوتوغرافياً بعنوان "اللف" لصونيا مرابط وفيه جسد ملفوف بالكامل بغطاء أبيض ليتحوّل إلى شيء لا يمكن تمييز شكله ولا لونه ولا معناه، وكذلك هو عمل "حديقة المحاولة" لدانيا ريموند الذي يفكّر في المرأة وحرية الفعل والفضاء العام.

يجمع المعرض أيضاً أعمال الفنانين: بَردي، ومنى بن نَعماني، وزليخة بوعبدلله، وفاطمة شافع، وإل ميا، ومراد قرينة، ونوال لويرا، وأمينة منية، وليديا أورحمان، وصادق رحيم، وسارة صدّيق، وفتحي صحراوي، وماسينيسا سلماني، وفلة تمزالي طاهري، وجمال طاطاح، وسفيان زوغار، ويزيد عولاب.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن العزلة والفن

نقف في معرض "في انتظار عمر قتلاتو" على مفارقة تتمثّل في إشارته إلى تنشّط الحياة التشكيلية في الجزائر، وفي الوقت نفسه إلى قلّة حضور الفنّان الجزائري خارج فضاءات تحرُّكه المعروفة، داخل بلاده أساساً وضمن أفق الثقافة الفرانكفونية في أحسن الأحوال. لكننا نعلم أن الفنون البصرية الجزائرية لا تصل حتّى إلى البلدان المجاورة، وهو ما يطرح أسئلة حول أسباب هذه العزلة ودور الفن التشكيلي في كسرها.

المساهمون