تعدّد المشارب

تعدّد المشارب

28 فبراير 2020
(مقطع من عمل لـ فخر النساء رعد/ الأردن)
+ الخط -

تعدُّد المشارب: هذا هو المجاز الذي استخدمه العرب للتعبير عن "التنوّع". ويقدّم أحد التعريفات الثقافةَ على أنها وحدة عضوية منسوجة من العناصر المتنوّعة التي تشكّل حياة الأمة، مثل المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية وطرق التعبير؛ فالتنوّع رديف الحرية، والتنوّع تعبير عن راحة البشر في العيش بالطريقة وبالشكل الذي يرغبون فيه.

وأمّا طرق التعبير فهي التي تهمّنا هنا، إذ أنّ الانقسامات السياسية والأيديولوجية والدينية أو الطائفية تميل إلى اعتبار العالم من حولها والمصير البشري والقيم الكبرى، أو حتى الهموم الصغيرة، الشكل الوحيد الصحيح والمقبول في النظر إلى الحياة المعيشة. ترفض السياسة، وخاصة في بلداننا، التنوّع، وتدعو إلى توحيد الرؤية، أو توحيد المجتمع كلّه، بحيث يمكن لأي اختلاف في النظر أن يُصنَّف في باب الاعتداء على الشعور العام الوطني. بينما تميل طرق التعبير الكتابي، والشفوي أيضاً، إلى تقديم العالم ملوّناً. ثمّة عشرات الأشكال التي تفسح لنا المجال للتعبير عن أنفسنا، دون المساس بمجال الآخر للقيام بالأمر نفسه.

وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إغناء الحياة العامّة بما يمكن أن نسمّيه وجهات النظر، إذ ما أن تفتح أي واحدة منها، فيسبوك أو تويتر أو غيرهما، حتى ترى احتمالات لا حصر لها في تقديم رؤية العالم. ويخيّل إليَّ أن هذا الكم من التعبير الذي يسود العالم العربي، سواء في وسائل التواصل أو في الأنواع المكتوبة في الرواية والقصة والشعر، وهي الفنون الأكثر حضوراً اليوم في الحياة الثقافية العربية، إنما يأتي بطريقة عفوية، أو مقصودة للرد على محاولات سلب التنوّع من المجتمع، ومحاولات تأميم الهويات الوطنية، ومحاولات طمس التنوّع أو التعدّد الثقافي، لإحلال نمط وحيد من التشابه، خاصة في الزمن الذي كانت فيه السلطة تهيمن على وسائل الإعلام كافّة.

ويمكن لكل من جرّب من السوريّين مثلاً الانتقال من منطقة جغرافية إلى منطقة جغرافية أخرى داخل سورية أن يعرف مقدار البهجة التي تنقلها العادات والتقاليد المتنوّعة إلى الآخرين. سواء كنت قادماً إلى المكان بتقاليدك وعاداتك، أو كنت من سكّانه. وكل من تنقّل في هذه الجغرافية (وأظن أن الأمر يشمل معظم البلاد العربية) يستمع إلى أشكال من التعبير الموسيقي والغناء الذي يعكس بدوره شكل استقبال العالم من قبل أهل كل منطقة.

وفي مراحل مختلفة من تاريخنا المعاصر كانت الملابس، أو الأزياء الشعبية، تعيد بناء حياتنا المشتركة أيضاً، بتشكيلاتها المتنوّعة التي تعكس أنماط العيش والأعراف والتقاليد.

تتصدّر الرواية، كطريقة في التعبير، موضوع التنوّع، بل يمكن اعتبار النوع الروائي، مختبَراً داخلياً لأشكال التنوّع، حين تعلن كل شخصية عن وجودها وحوارها مع الآخرين. وبهذا المعنى فإننا نستطيع أن نقول إنه لا وجود لرواية عربية، أي لا وجود لشكل وحيد من التعبير يمكن أن نطلق عليه عربية الرواية العربية، بعكس ما كان يرغب بعض النقّاد في العقود الماضية، بل ثمّة روايات عربية، أي مجموعٌ متنوّع ومتعدّد من الأشكال الفنية التي يقدّم الروائيّون العرب من خلالها احتمالات لا حصر لها من العزف على وحدة الثقافة العربية في تنوّعها.


* روائي سوري

المساهمون