كافكا ومأساة سكّان بابل

كافكا ومأساة سكّان بابل

01 فبراير 2020
بورتريه لـ كافكا، ماتيو لاكا
+ الخط -

شعار المدينة
فرانز كافكا

بدا كل شيء في عملية بناء برج بابل، في أول مرة، منظماً بشكل مقبول، أجل، لربما كان النظام كبيراً جداً، فقد فكّر المرء كثيراً بمرشدين ومترجمين فوريين وأماكن سكن العمّال وطرق الاتصال، كما لو أنه يملك قروناً من إمكانية العمل الحر أمامه. أما الرأي الذي كان سائداً آنذاك، فيقول بأنه ليس بمقدرة المرء البتّة أن يكون بطيئاً بهذا الشكل في البناء، ويتوجّب عليه ألّا يبالغ في ذلك بشكل كبير، لأن من شأن ذلك أن يجعله يشعر بالخوف من وضع الأساسات. كان المرء يستدل على ذلك بالقول: إن الجوهري في هذا المشروع كلّه هو فكرة بناء برج يبلغ السماء.

وحين يتم الإمساك بالفكرة في عظمتها، حينها لن يكون بمقدرتها أن تختفي، فطالما هناك بشر، ستكون هناك الرغبة القوية ببناء البرج إلى نهايته. وبالنظر إلى ذلك، لا يتوجّب علينا أن نقلق بشأن المستقبل، بل العكس هو الذي يجب أن يكون، لأن معرفة الإنسان ستتصاعد. لقد عرف فن العمارة تقدماً، وسيحقق أشكالاً أخرى من التقدم، والعمل الذي نحتاج عاماً من الزمن لكي ننجزه، سنحتاج لربما بعد قرن من الزمن إلى نصف عام من أجل تحقيق ذلك، وسيكون، فوق ذلك، أكثر متانة.

لماذا يتوجّب علينا اليوم أن نبذل قصارى جهدنا؟ لن يكون لذلك معنى، إلا إذا كان بمقدورنا أن نأمل ببناء برج خلال جيل واحد. لكنه أمر لم يكن بالإمكان البتة توقعه. فالجميع فكّر بأن الجيل المقبل، وبالنظر إلى معرفته الأكثر كمالاً، سيجد عمل الجيل السابق سيئاً، ويعمد إلى هدم البناء، ومعاودة بنائه من جديد. إن مثل هذه الأفكار كانت تشلّ القوى، وبدلاً من الاهتمام ببناء البرج، تم الاهتمام أكثر ببناء مدينة العمّال، وأراد كل شعب لنفسه أن يحصل على أجمل الأحياء في المدينة، فنجم عن ذلك نزاعات دموية، ولم تتوقف هذه النزاعات، لأنها بالنسبة للقادة ستمنحهم حجّة جديدة للاستمرار، وفي بطء، ببناء البرج، وذلك أيضاً بسبب التركيز الضروري الذي تحتاجه عملية البناء، ولربما من الأفضل الاستمرار فيها بعد تحقيق السلام الشامل.

لكن الناس لم تقض كل وقتها في النزاعات فقط، ففي أوقات الراحة كانت تهتم بتجميل المدينة، لكن ذلك سيخلق أشكالاً جديدة من الحسد ومن الحروب، وستمضي حقبة الجيل الأول بهذه الطريقة، ولا جيل بعده سيختلف عنه. وحدها المهارات الفنية ستتطوّر بشكل مستمر ومعها إدمان الحروب.

وعقب ذلك، ينتبه الجيل الثاني أو الثالث إلى عبثية بناء البرج، ولكن الناس كانت مرتبطة ببعضها إلى حد كبير، بشكل منعها من مغادرة المدينة. وكل ما نشأ في هذه المدينة من أساطير وأغان، مسكون بالحنين إلى يوم نبوئي، يقول بأنه سيتم تدميرها فيه بقبضة ضخمة، في خمس ضربات قصيرة ومتتالية. للسبب عينه، كانت قبضة ترتسم على شعار المدينة.


■ ■ ■


قراءة
إن الاعتقاد بضرورة التقدم وحتميته، تلك الرؤية الموروثة عن التنوير، ستجعل من التاريخ أداة التقدم المستمر. سنقف في هذه الرؤية أمام سيرورة غائية لإنجاز العقل، والتي ستبدو فيها المبادرة الإنسانية - كما يلاحظ ستيفان موزيس في كتاب "ملاك التاريخ" - ثانوية، حتى أن الاعتقاد بحتمية التقدم سيقود سكان بابل، كما كتب كافكا في قصته، إلى التأجيل المستمر لإنجاز البناء. فبسبب ثقته بالمستقبل أو تماهيه مع عقيدة التقدم، سيقرر الجيل الأول أن يعتمد على الجيل اللاحق لإنهاء عملية البناء. وكما الأمر في التاريخ الكوني لهيغل، فهناك غاية لهذا التاريخ، ومثال يتقدم إليه، وستلعب هذه القدرية الغائية دور مبدأ محايث، يقود التاريخ ويبرر أحداثه. إننا نقف هنا أمام عقل تاريخي، ينظم من الداخل سير المغامرة الإنسانية، عقل يرسم حركات وسكنات هذا التاريخ.

وبالنظر لهذا التقدم الذي لا يقبل الرجعة فإن وظيفة المبادرة الإنسانية، تختزل، برأي موزيس، في أداة لخدمة غاية تتجاوز هذه المبادرة بشكل لانهائي. إن كل فعل إنساني هو من طبيعة عرضية وأهميته ترتبط بمدى توافقه من عدمه مع دينامية العقل المتحققة في التاريخ. لكن عمل العقل بطيء ولربما لانهائي، فمن أين لنا أن نعرف إذا كانت الأزمنة ناضجة من أجل تحقيق مشاريعنا؟ ويكتب كافكا "إن مثل هذه الأفكار تشل طاقاتنا"، فالاعتقاد بالضرورة الحتمية للتقدم تقود حتمياً إلى نوع من التأجيل المستمر للفعل. لم يعد التاريخ مكاناً لظهور الجديد، ويظهر أنه محكوم عليه بأن يؤدي ـ كما الحال في أسطورة سيزيف ـ الدور نفسه بشكل لانهائي.

يتمحور نص كافكا حول "منذ اليوم". فما يُقصيه العقل التاريخي هو فكرة أن الغاية أو تحقيق كل شيء يمكنها أن تتحقق "منذ اليوم". إن أهم شيء هنا، كما كتب كافكا في قصته، هي فكرة بناء برج يمتد حتى السماء، كما أن أهم شيء بالنسبة لهيغل هو الغاية من التاريخ.

إن سكان بابل مذنبون لأنهم استسلموا لدين التقدم اللانهائي المعاصر، بدلاً من أن يعمدوا منذ اليوم الأول إلى بناء البرج، إنهم، وحتى نتكلّم مع نيتشه، ضحوا باللحظة. إن التأجيل اللامحدود لكل هذه المثالات سيكون مصدراً للعنف، ويتحوّل التحسين المستمر لأدوات العمل إلى هدف في ذاته، ينسينا الهدف النهائي من كل ذلك ويتحوّل التقدم التقني إلى وسيلة للسيطرة ويشعل فتيل الصراع كما أوضح موزيس.

يكتب كافكا: "وحدها المهارات ستتطوّر ومعها الرغبة في القتال"، فتتحوّل اليوتوبيا، التي تم فهمها باعتبارها هدفاً لا يمكن الوصول إليه، إلى نوع من التجريد المحض ولن تتسبّب سوى بفقدان الناس لأي رغبة في تحقيق ما يصبون إليه. فبعد الجيل الثاني أو الثالث، يكتب كافكا، "سيدرك الناس عبثية بناء برج يصل إلى السماء" وهكذا ترتد اليوتوبيا كمهمة لانهائية على نفسها. "ففكرة زمن يمتد بشكل لانهائي، زمن بلا نهاية، يقصي بشكل مسبق إمكانية أن يبلغ العالم اكتماله يوما ما"، يكتب ستيفان موزيس، متابعاً بأن "الحاضر ليس طريقاً تربط الحاضر بالمستقبل، بل هو يفجّر الانسجام التاريخي ويخرجه من مساره الغائي. إن ملاك التاريخ، كما تصوره فالتر بنيامين، هو رمز لهذا الحاضر المتمرد. ففكرة التقدم التاريخي، وفقا لبنيامين، ترتبط صميمياً بالفكرة التي تقول بأن هذا التقدم يتحقق في زمن منسجم وفارغ. لكن بالنسبة له، يبقى التاريخ موضوع بناء، لا يتحقق في زمن منسجم وفارغ، بل في زمن مليء بـ "زمن اليوم"، أو زمن الضحية.

يكتب ستيفان موزيس: "إن حكم التاريخ ليس هو الحكم الأخير. فليس التاريخ من يحكم على الأفعال الإنسانية ولكن الأفعال الإنسانية من تحكم على التاريخ".

المساهمون