محمد م. الأرناؤوط.. حفريات في أقدم دستور عربي

محمد م. الأرناؤوط.. حفريات في أقدم دستور عربي

03 يناير 2020
ساحة المرجة في دمشق في مطلع العشرينيات (Getty)
+ الخط -

لماذا نقرأ اليوم دستور المملكة السورية العربية بعد مرور مئة عام على إعلانه، أهي محاولة لاستعادة تلك اللحظة التي جمعت كلّا من سورية؛ المأساة المفتوحة فصولها، وفلسطين قبل خضوعها لأبشع استعمار في العصر الحديث، والأردن الذي يعيش أزمة اقتصادية وتتهدّده أطماع الصهاينة، ولبنان المنتفض على فكرة محاصصته التي دامت عقوداً؟

أم نذهب لمراجعة مدوّنة تشريعات هي في نظر دارسين أكثر تقدّمية وتبصّراً من دساتير زامنته (الدستوريْن العثماني والإيراني) وأتت بعده، وشكّلت أحد عوامل انهيار دول عربية أو أنها موضع رفض واعتراض لدى شعوب دول لا تزال قائمة؟

يذهب الباحث والكاتب الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، مدير "معهد الدراسات الشرقية" في كوسوفو، إلى الحفر عميقاً في ورقة قدّمها منذ أيام في "منتدى الفكر العربي" بعمّان بعنوان "مئوية دستور العهد الفيصلي 1918-1920".

افتتح صاحب كتاب "الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية" محاضرته بالتأكيد أن المئوية ليست احتفالية، وإنما "فرصة تاريخية للمراجعة النقدية للحدث، التي لا بدّ أن تقوم على حفريات جديدة بالعودة إلى مصادر جديدة، فكلما ابتعدت المسافة سمحت برؤية موضوعية أكبر وجرأة لقول أشياء لم تقل سابقاً".

ضمن ملاحظاته المنهجية التي قدّمها الأرناؤوط، أشار إلى أن اسمه كان "القانون الأساسي" تأسياً بالدستور العثماني الذي وُضع لأول مرة عام 1876 قبل تعطيل العمل به، وأن مفردة "الدستور" كانت جديدة في منطقة تجهل الثقافة الدستورية إلا من بعض الذين شاركوا في مناقشات "مجلس المبعوثان"، ومنهم الأمير فيصل بن حسين.

كما تجدر الإشارة إلى أنه مع التئام المجلس الجديد أو "المؤتمر السوري"، في الثالث من حزيران/يونيو 1919، تجلّت أيضاً فيه نخبة ذات ثقافة قانونية دستورية أو خبرة في الممارسة البرلمانية خلال 1908-1918 مثل هاشم الأتاسي، وسعيد الحسيني، وتيودور أنطاكي، وغيرهم.

وأوضح أنه تمّ تعطيل دستور المملكة السورية العربية في تموز/يوليو عام 1920، عشية دخول قوات الاستعمار الفرنسي إلى سورية، فلم تقرّ كلّ مواده، لافتاً إلى أنه تمّ إقرار المواد الأهم المتمثّلة في البند الأول حول نظام الحكم، وما تمّ تشريعه حول الأقليات (التي شكّلت ثلث مواد الدستور) وبدأ المناقشة بها، رغم أن ترتيبها كان في آخر البنود.

يقف الأرناؤوط عند مواقف النخب الدينية تجاه الحكم الدستوري في تلك الفترة، حيث انقسم العلماء في بلاد الشام بين غالبية تقليدية مؤيدة ومستفيدة من حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وأقلية متنوّرة وملاحقَة بتهمة "الاجتهاد" كما كانت الحال مع "حلقة المجتهدين" في دمشق التي التفّت حول الشيخ طاهر الجزائري (1852-1920) وضمّت أحمد محيي الدين الجزائري (1833-1902) وعبد الرزاق البيطار (1837-1916) وجمال الدين القاسمي (1866-1914) وعبد الرحمن الشهبندر (1879-1940) وغيرهم.

ويشير إلى أن الأمير فيصل فكّر منذ بدايات عهده في موضوع الدستور، مع عودته من باريس في أيار/مايو 1919، حيث عقد اجتماعاً في مقرّ بلدية دمشق (المبنى الذي أُعلن فيه الاستقلال السوري وهُدم لاحقاً)، وأخذ تفويضاً من ممثّلي المناطق السورية للسعي إلى أمرين اثنين: استقلال البلاد، وتأسيس مجلس منتخب يضع الدستور.

تسارعت الأحداث في المنطقة العربية آنذاك، مع تشكيل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لجنة "كينغ - كرين" التي زارت بلاد الشام وخرجت بتقرير مهم جداً في آب/أغسطس 1919م، رفضته بريطانيا وفرنسا، ثم تجاهلته أميركا نفسها لاحقاً، طالب بإيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأن تكون فلسطين جزءاً من سورية المستقلة، رافضين أيّ شكل من الانتداب.

في تلك الأجواء، يبيّن الأرناؤوط أنه كان هناك استعجال لدى غالبية المؤتمر السوري لتعزيز موقف الأمير فيصل التفاوضي، عبر تسريع تشكيل دولة دستورية قبل قدوم الجيش الفرنسي ووضعه تحت حكم الأمر الواقع (أي أنه يحتلّ دولة مستقلة ذات دستور تشمل جميع بلاد الشام)، وكذلك تمثيل كافة الأقليات في الحكم السوري الجديد في مراعاة لجميع المكوّنات التي كان يناور الفرنسيون في موضوع تمثيلها بالادعاء أنها تؤيد الخضوع لاستعمارهم.

وصولاً إلى الثامن من آذار/مارس عام 1920، سيعلن المؤتمر عن استقلال سورية بحدودها الطبيعية، وتنصيب فيصل ملكاً دستورياً، بحسب المحاضِر، الذي لفت إلى نقطة أساسية وهي أن الحكومة تصبح مسؤولة أم المجلس التأسيسي (المؤتمر السوري بعد تحوّله إلى مجلس) وليس أمام الملك.

الأرناؤوط الذي عاد إلى مصادر عديدة، منها صحيفة "حلب" التي كانت أول جريدة للحكومة السورية العربية وليس "العاصمة" كما يعتقد كثير من الدارسين، وإلى صحيفة "المصباح" التي كانت تصدر من حلب أيضاً، منبّهاً إلى اهتمام الصحف حينئذ بنقل جلسات مناقشة الدستور، وتبرز مناخات تلك الفترة ومجرياتها.

لم يكن إنجاز وضع القانون الأساسي أو الدستور مهمة سهلة بسبب التباين الكبير بين التيار التقليدي، سواء من العلماء أو من المحافظين وتيّار التحديث الذي كان يمثّله المتعلّمون الجدد أو المتنوّرون من العلماء، بحسب صاحب كتاب "البوسنة والهرسك خلال الحكم العثماني"، الذي نوّه إلى أنه "بعد الجلسة الافتتاحية الرسمية توتر الوضع في جلسة العمل الأولى، حين اعترض علماء دمشق على خلوها من البسملة"، فقابلهم الأعضاء الآخرون وكلّهم من خريجي كليات الحقوق والعلوم بأن "الأمة تتطلع إلى فجر جديد تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر لا دخل فيها للدين"، وفي هذا الجو دارت مناقشات ساخنة حول مواد الدستور القادم التي تتعلّق بالعلاقة بين الدين والدولة، وحقوق المرأة، إلخ.

وقد تبلور هذا الاتجاه، الذي سيعتمد مصطلح الدولة المدنية عوضاً عن الدولة اللادينية أو اللائكية، بشكل أقوى، مع اعتماد اللائحة التي قدّمها للجنة كينغ- كرين وجاء فيها "تكون حكومة هذه البلاد السورية ملكية، مدنية، نيابية، تُدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة وتحفظ فيها حقوق الأقليات، على أن يكون ملك هذه البلاد الأمير فيصل".

ومن بين ما أوردته تلك الصحف، كان حماس العرب المفرط للحلفاء (فرنسا وبريطانيا)، وأملهم أن يصبحوا دولة متقدّمة بحكومات دستورية تشبه ما كان معمولاً به في باريس ولندن، وكيف أن الحلم انكسر مع الإعلان عن مؤتمر سان ريمو في نيسان/إبريل 1920، الذي أقرّ مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي.

يختم الأرناؤوط ورقته بالإشارة إلى أن الملك فيصل أصدر إرادة بتعطيل عمل المؤتمر في 20 أيلول/سبتمبر 1920، وبعد معركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 صدرت جريدة الحكومة "العاصمة" في 29 من الشهر نفسه بأسماء رئيس وأعضاء الحكومة الجديدة التي قبلت الانتداب الفرنسي (علاء الدين الدروبي وفارس الخوري ويوسف الحكيم وغيرهم)، كما نُشر في الصفحة الأولى بيان الجنرال الفرنسي غوييه أمام الحكومة التي يلقى فيها بالمسؤولية على الملك فيصل الذي "أشرف ببلاده على قيد إصبعين من الهلاك، وأن مسؤوليته في الاضطرابات الدموية التي وقعت في سوريا منذ شهرين أعظم وأوضح من أن تسوّغ له المثابرة في الحكم،" وبذلك قُضي على هذا العهد الدستوري، بما في ذلك المؤتمر السوري الذي كان يوشك على إقرار بقية مواد مشروع الدستور.

ويخلص الأرناؤوط إلى ثلاث نقاط أساسية؛ الأولى تتعلّق بريادة دستور المملكة السورية العربية، خاصة في تحديده طبيعة نظام الحكم ملكياً مدنياً نيابياً، خلافاً لدساتير المنطقة، والثانية إلى تعمّد تجاهل الدستور طوال مئة عام وطمس أية مناقشة جدية للسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهر خلالها، وراهنية هذا الدستور في لحظة تتشكّل بها لجنة دستورية يحاول أعضاؤها التفكير بمصير سورية في لحظة تاريخية فارقة.

المساهمون