لغةٌ أسيرة

لغةٌ أسيرة

26 اغسطس 2019
(منذر جوابرة، من سلسلة "زمن مكسور"، 2016)
+ الخط -

لا أميل إلى تصنيف الأدب إلى "أدب سجون"، "أدب نسوي"، "أدب مهجر". إن التصنيف يحدد مداخل القراءة، يمكن اعتبار ذلك تدخلاً "سافراً" في مزاج القراء.

بالنسبة لي، ما يعنيني من الأدب هو ما يحمله من قيم جمالية جديدة ومن قدرته على الوصول باستمرار إلى مساحات واسعة من النفس البشرية.

صحيح أن ثمة مشكلة يمكن ملاحظتها على مستوى المفهوم، في ما يتعلق بالإنتاج الأدبي بشكل عام، إلا أن الأمر يزداد تعقيداً حينما نمنح هذا الإنتاج هوية مكانية، السجون مثلاً.

"أدب السجون" يختلف عن أدب "الأسير". السجون هي أمكنة وأسلاك وأنظمة. الأسير مقاتل اختطف جسده من المعركة، لذا فإنه يواصل معركة أخرى داخل السجن نفسه، وعليه فأني أميل ربما أكثر إلى تحديد هوية الكاتب أكثر من تحديد مكان الكتابة.

يمكن للذين يعيشون خارج أسوار السجن أن ينتجوا أدباً عن السجون. أما إذا كان المقصود، في جزء من السؤال، أن الأسير أو الشهيد أو الجريح بالضرورة مُنزّهٌ في المخيال العام، وأن ما ينتجه الأسير من كتابة لا يمكن مقاربته نقدياً إلا من باب كيل المديح، هذا في رأيي إساءة للأسير وللأدب على حد سواء.

فلسطينياً، أعتقد أن اللغة الفلسطينية هي "أسيرةٌ" أيضاً... أسيرة للجغرافيا وللتاريخ، ولتصوُّرات ذهنية تتوقّع من اللغة الانتصار دائماً وأبداً، لتصبح بطلةً، ولا مجال لها أن تؤدي أيّ دور آخر. يمكن أن نقرأ نصوصاً لمحمود درويش وهو في السجن على ضوء ذلك، أو قصائد الراحل عن عالمنا حديثاً خليل توما بعد تجربة الاعتقال مطلع السبعينيات، أو نصوصاً لعيسى قراقع، أو قصائد للمتوكل طه أثناء وجوده في السجن فترة الانتفاضة الأولى.

لا أدّعي معرفةً خاصّةً بهذا الأمر، إلّا أنَّ تجربةَ صالح أبو لبن بعد أن تحرّر من السجن بسنوات طويلة (كان أسيراً لمدّة 15 عاماً)، تلفت الانتباه. لقد عاد مستعيناً بقوّة الذاكرة التي انتصرت على غيابها القسري، طيلة تلك الفترة التي قضاها في عزلة عن العالم الخارجي، إلى الخطوات الأولى من حياته، ليقدّم سيرةً أدبية عن علاقاته بالعالم، بدءاً من العائلة والمخيَّم والوطن، مروراً بتجربة الاعتقال ثم الحرية، وأنجز ذلك عام 2013، علماً أنّه حُرّر عام 1985. كما أن روايات لافتة ظهرت من أسرى ما زالوا هناك. وإذ إنَّ السجون ما زالت مليئة بالأسرى، فإن التجربة نفسها لم تنته بعد.

ثمّة اقتراحات أدبية مبشرة تطلّ من خلف السياج؛ مثل روايات باسم الخندقجي وآخرين.


* شاعر من فلسطين

المساهمون