كمال بُلّاطه.. استعادة لضوء القدس

كمال بُلّاطه.. استعادة لضوء القدس

19 اغسطس 2019
(من أعمال بُلّاطه)
+ الخط -

لم تنفك حالة الإقصاء عن الوطن والعيش في المنفى تُلح بنفسها على روح الفنان والناقد والمؤرّخ الفني كمال بُلّاطه (القدس 1942- برلين 2019) الذي رحل قبل أيام، باستدعاء كل ما علق في ذاكرة الطفل لديه من أشكال احتفظ بها في ذاكرته البصرية، فبلا شك، كانت سنواته الأولى في القدس، مسقطِ رأسه، ذات أثر ملموس في معظم أعماله اللاحقة، عبر افتتانه بالأنماط الأرابيسكية بالغة التعقيد التي تزيّن قبة الصخرة، لتصبح هذه الهندسة الفنية وما فيها من خط عربي وضوء طبيعي واحدة من أهم ركائز أعماله، وهو الضوء الذي قال عنه في واحدة من مقابلاته: "ربما كان ضوء القدس هو ما كنت أسعى لاستعادته عبر اللوحات".

تظهر انشغالات صاحب "وهناك كان الضوء" (2015) الفنية والفكرية مسكونة بفكرة إحداث مزج فنّي بين الحرف العربي باعتباره الامتداد الأكثر دلالة للصوت وما يمكن تطويعه على صعيد اللوحة الفنية، من خلال ما بات يُعرف بالحروفية الدلالية، راصداً من خلالها الإمكانات التشكيلية الكامنة في قواعد الخط العربي، وهو المنهج الذي مزج فيه التشكيل باللون، التطريز الفلسطيني التقليدي بالتجريد الهندسي للحداثة الغربية، مرتّباً الحروف كعناصر بصرية تعبّر عن التراث الثقافي.

تأثَّر صاحب "سرّة الأرض" (1998) بالرسّامين الأميركيّين وتحديداً مدرسة اللون، يقول عنها: "لقد أغرتني قوّة لونهم وقوّة هندستهم، لكني شعرت بفراغ بصري في ذلك، كان أجوفَ في مكان ما، لذا، فكرت في إدخال الكلمات باللغة العربية من خلفيتي الثقافية - معظمها من المصادر والتعابير المسيحية والإسلامية التي نطق بها الصوفيّون ثم بدأت بتجربة شكل ملوّن وهندسي من الخط العربي، تقوم على ملأ الحروف والكلمات المربّعة على ورق الرسم البياني، ثم يأخذ شكلها بالتأثّر بشبكة الصفحة بدلاً من قلم القصب الذي يُستخدم عادةً في الخط العربي"، يضيف هنا: "بهذه الطريقة، كنت أمدّ فن الرسم بإبداع الكلمات".

في وقت لاحق، تخلّى صاحب "الفن الفلسطيني من 1850 إلى الحاضر" (2009) عن استخدام النص، لكنه احتفظ بورقة الرسم البياني، وقام بتشريح المربّعات بشكل قطري وعرضي، ليجد الجمال في الأشكال الهندسية المتوالدة والمتغيرة التي ستأتي كمثال على أعماله اللاحقة. يقول: "أنا أعتقد أن كلّ شكل هو بمثابة جسد، فلو وضعتُ مربَّعاً على الورق، فإنه سيتمثّل على شكل جسد، أنا أرسم الحرف الكوفي ولا أكتبه، أملأ الحجم، حيث يصير جسداً يتنفّس اللون".

وُصفت أعماله المتأخّرة بما يُمكن أن يُطلَق عليها فنون "هندسة الاستقرار" التي أسّس لها بُلّاطه مستخدماً الورق الشفّاف و"الوميض المتبلور في اللوحة"، وهي محاولات لتسليط الضوء على التناقضات الصارخة للون والخطوط المعمارية، محض محادثة بصرية تستكشف العلاقة بين النور والظلام، وهو ثنائية تستفز تلك الشواغل المركزية للهوية الفلسطينية، وتحديداً فكرة النفي والإقصاء المسكونة عميقاً في الذهن الفلسطيني.

قدّم كمال بُلّاطه، وعبر أكثر من أربعة عقود، مجموعة من الدراسات اللافتة لمواكبة تطوّر الفن الفلسطيني عبر الأزمان، فحص عبرها سياقات نشوء وتحوُّل أبرز ملامح الحركة الفنية الفلسطينية، أضاف إليها مجموعة من الكتب التي قام بتحريرها والتقديم لها، ناهيك عن ترجمات شديدة الأهمية لكتابات أدبية وفنية قدّمها للمكتبة العالمية.

ففي كتابه "هناك حيث لست أنت" (2019)، يستكشف - عبر مجموعة من المقالات التي كتبها على مدار أربعة عقود من المنفى في أوروبا وشمال أفريقيا والولايات المتحدة - التقاطعات الحاصلة بين الجماليات والتاريخ والسياسة التي تُعد مناهج أساسية لتناول تاريخ الفن العربي الحديث. تحضر تجربة المنفى وأسئلة المقاومة في المقالات التي تتنقل موضوعاتها من السيرة الذاتية إلى الفن المعاصر، والأفكار المبكرة عن العلاقات بين الجنسين، واللغة والبصريات، ومسائل الهوية والعولمة.

ويذهب في كتابه "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" (2000) إلى تناول لوحات ما قبل عام 1948، إلى جانب الأعمال الإعلامية المعاصرة، مما يسلّط الضوء على الاهتمامات السياسية للفنانين الفلسطينيين ومساهماتهم الفريدة في الثقافة العربية الحديثة. يتم فحص أعمال الفنانين الذين يعيشون في فلسطين إلى جانب أعمال الفنانين من الشتات الفلسطيني، وهي الأنطولوجيا المرجعية للفن الفلسطيني المعاصر، تناول فيها أسماء كثيرة منهم إبراهيم غنام وناجي العلي واسماعيل شموط وبول غيراغوسيان وجوليانا صورافيم.

يقدّم في كتاب "الانتماء والعولمة: مقالات نقدية في الثقافة والفن المعاصر" (2008) أصوات مجموعة فنية رائدة ساهمت في تشكيل المشاهد الفنية والثقافية خارج التيار الرئيسي الغربي، وبالتركيز على مفهوم الانتماء، يقوم المساهمون المتنوّعون بدراسة الاستجابات للتحديات التي تطرحها العولمة. تستكشف هذه المقالات ثيمات إبداعية ثقافية كالمكان والبداوة والهوية الوطنية والتعبيرات الثقافية العابرة للحدود، بما في ذلك استخدام العلامات والاستعارة. يكشف المساهمون كيف يعثر فنانو المجتمعات التقليدية على أسس التعبير الإبداعي في تراثهم الثقافي.

وفي كتابه "شهود أوفياء.. أطفال فلسطين يعيدون خلق عالمهم" (1990)، قدم الفنان الفلسطيني رسومات ولوحات أنجزها أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و11 سنة من أيام الانتفاضة الأولى، وهي أعمال حملت دلالات فنية كثيفة حول يوميات الفلسطينيين تحت الحكم العسكري، والتي أراد فيها للأطفال أن يقولوا الحكاية الكبرى على طريقتهم الخاصّة.

المساهمون