سرقة كيوبيد

سرقة كيوبيد

14 اغسطس 2019
(لوحة "كيوبيد الدمشقي" لـ بطرس المعري)
+ الخط -

"لقد رأيتُ لوحة من لوحاتك لدى المخرج فلان قبل أيام، لوحة الملاك الذي يحمل في يده كبّادة"، تكتبُ لي مُحدّثتي. قلت لها إن هذه اللوحة لم تخرج من باب المرسم، ربما أنتِ مخطئة. بلى، لقد رأيتها بعيني، أجابتْ. اعتقدتُ حينها أنها تخلط ما رأته مع لوحة قد نشرتها على صفحتي في فيسبوك بعنوان "كيوبيد الدمشقي"، وبكلمة "يمكن" أنهيت تلك المحادثة الإلكترونية. وفي الحقيقة، إن لهذه اللوحة قصة طريفة في طريقة إنجازها وقصة أخرى "غير طريفة" وسنروي القصتين.

كنت في دمشق أعمل على لوحة فيها رجل وامرأة يقفان في حي شعبي ويطير فوقهما ملاك ملتح، يحمل في يده ثمرة كباد، وهو نوع من أنواع الحمضيات يزرعه الكثير من الدمشقيين في دورهم. لكن سير العمل لم يفضِ إلى النتيجة المرجوة. لقد فشلتُ في صنع لوحة مقنعة، فقلت سأتلفها وأبدأ المحاولة من جديد.

انتبهت حينها إلى أن الملاك كان كشكل لا بأس به فنياً. أخذت المقص وقصصتُ مستطيلاً من القماش/ اللوحة يضمّه ووضعته جانباً حتى أعرف ماذا سأفعل به لاحقاً. قبل ذلك بأيام، كنت في حي العمارة الشعبي، فاستوقفتني فيه ورشة نجار متواضعة، يصنع فيها صواني مستطيلة الشكل من الخشب. قال لي إنه يصنعها للأفران، يضعون فيها أقراص العجين المُعدة للخَبز. ابتعت منها صينيّتين اثنتين وعدتُ بهما وفي ذهني التصوير عليهما.

من محاسن الصدف أن القماشة التي تحمل الملاك تسقط في الصينية الخشبية وكأنها فُصّلتْ لأجلها تفصيلاً. ألصقتها وأكملت باللون ما تبقى ظاهراً من الخشب لتصبح لوحة "لطيفة" وحاملها مبتكر. كان ثوب الملاك مزخرفاً بأشكال قلوب، فقلت إنه كيوبيد ولما كان أسمر ملتحياً ويختلف عن أشكال الملائكة في الفن الغربي أعطيته اسم "كيوبيد الدمشقي".

بعدما أنجزت اللوحة نشرت صورة لها على فيسبوك وكتبتُ نصاً صغيراً جاء فيه: "في باب توما، عندما يذهبُ أهلُ الفتاة في زيارة الأقاربِ مساءً، يأتي كيوبيد ليلقي حبَّة كبَّادٍ في بركة الدَّار الصَّغيرة فيُبعثر ضوءَ القمر السَّاكنِ فيها وينثرَه ياسميناً في صحن الدَّار مُعلناً لها أنَّ جارها يُحبُّها حباً جمّاً".

في اليوم التالي، وجدت أن قطعة الخشب الحاملة للرسم قد تقوّست، ويعود السبب على الأغلب إلى عملية الشد من جراء إلصاق القماشة بالغراء على الخشب الرقيق نسبياً. هذا الأمر جعلني أحجم عن عرضها أو بيعها كونها تحمل "عطلاً في التصنيع".

مضت الأيام، ليكتب لي صديق آخر أنه رأى لوحة "كيوبيد الدمشقي" لدى نفس المخرج السوري، فقلتُ له إن اللوحة ما تزال لدي وفيها تشوّه في حاملها، فلم أبعها، فكيف هذا؟ وعدت بذاكرتي إلى الشابة التي حدثتني عنها قبل أشهر. ارتبك الصديق وقال "إنه لا يعرف أنني لا أعرف!" وعرفت أنها كانت جزءاً من فيلم "الرابعة بتوقيت الفردوس"، وباعتبارنا لا نستطيع مشاهدة الفيلم، قمنا ببحث سريع عن الموضوع لنرى إن كانت عملية استخدام جهدنا من دون إذن قد وقعت بالفعل أم لا.

يكتب أحمد خليل في "الأوان": "وكان الموسيقي قد علق لوحة طفل مجنح تمثل كيوبيد في غرفة حبيبته في المشفى وحكى لها عنها...". كما يكتب سامر اسماعيل في جريدة "البناء": "مغادرة المستشفى تأتي مع خروج الفتاة المريضة بالسرطان لتحقق "نبوءة كيوبيد" الدمشقي بسقوط "ثمرة الكباد" عليها وحبيبها في المشهد الأخير يجمعهما في "بحرة الماء"، ...".

لا مجال للشك إذن في حدوث عملية سرقة الفكرة. لم أبحث عمّن نسخ اللوحة، بل بحثت عن المخرج في فيسبوك فوجدت صوراً من أعمالي قد شاركها على صفحته (ربما حذفها لاحقاً). لم يكن صديقاً افتراضياً، بل كان يتسلل إلى صفحتي ويأخذ منها. الأمر لا يهم لأن صفحتي عامة، لكنني تساءلت: من يستطيع الوصول إلى صفحتي/ أعمالي، ألا يستطيع أن يكتب لي رسالة أنه يريد استخدام واحدة منها في فيلمه الجديد؟ بالطبع لن أطلب مقابلاً مادياً، فمن سبق وقصدني في أمر مشابه لم أبخل عليه، لا بل قد أنجزت أعمالاً بالمجان لأبناء كار الثقافة الذي يجمعنا. ثم قلتُ ربما هو أكبر من أن يطلب مني، فقد رأيت له صورة يدخن السيغار مثل غيفارا.

سألتُ صديقاً مشتركاً عن الأمر فأجابني برواية على لسان المخرج لم أحفظها لأنني لم أقتنع بها... وبالطبع لم يكلّف المخرج "الهوليوودي الكبير" خاطره بالكتابة إليّ شارحاً، أما أن يكون لديه شجاعة الإقرار بخطأه فهي غير واردة.

قبل لوحتي هذه لم يكن هناك شيء يدعى "كيوبيد الدمشقي" ولا كانت أسطورة ثمرة الكباد التي جاءت بمحض الصدفة في اللوحة. واستعمالها من قبل الغير أمر مرحّب به كأي فكرة موجودة في الكتب أو في التراث المحكي أو... لكن عندما يُنسخ عمل ويستعمل مع فكرته من دون إعلام المؤلف (الموجود على الطرف الآخر من الهاتف أو الحاسوب) بالأمر على الأقل فهذا فيه استهتار. لقد مضت على الحادثة بضع سنين، أردت استذكارها وتذكير من يعمل في المجال الفني أو الثقافي أو حتى الأكاديمي أن ذكر مصدر المعلومة أو الفكرة لا ينقص من قيمة العمل الذي ننجزه بل هو جزء من العمل المهني وما فعله هذا المخرج لا يجوز.

لا نبتغي التشهير ولا نطلب تعويضاً منه مادياً أو معنوياً، لكن من واجبنا التنبيه إلى أن على الجميع احترام جهد الآخرين لأن فيه احترام الذات.


* فنان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا

المساهمون