ذاكرة "دار جواد": المرأة وشبح الإقصاء الاجتماعي

ذاكرة "دار جواد": المرأة وشبح الإقصاء الاجتماعي

13 اغسطس 2019
(لقطة من فيلم "الجايدة" لـ سلمى بكار)
+ الخط -

أقبية ورُطوبة وارتعادٌ. لُقيْمات زهيدة، وصرامةٌ لا تَفتُر مع مرور الأيام، تلك سمات "دار جواد"، مُؤسسة احتجازية عتيقة، هي في منزلةٍ بين سجنٍ للنساء ودَيْر للراهبات، أو بين مَشفىً عقليٍّ ومَبيت ثانوية للبَنات. ففي تونسَ القرن التاسع عشر، كانت الزوجة الناشز أو الفتاة الجانِحة تُرسل إليها لـ"التقويم". وفي غرف تلك الدار، كنّ يَشتغلن بصنائع شتّى مثل الخياطة والتطريز، وفيها يَقضين أشهراً وربما سنواتٍ طويلة، لإعادة "تَأهيلهنَّ"، كَمَن يُكفّر عن ذنبٍ ويطلب غفرانَ المجتمع.

كانت هيئاتُ "القضاء الشرعي" تسعى، من خلال هذه الأداة الزجرية، إلى التخلّص من "فتنة" الجانِحات، وإقصائهن إلى "فضاءٍ"، محكومٍ بقوانين المجتمع، ولكنه معزول عنه وعَن حوزتِه الصافية. ولم تُغلق هذه المؤسسة إلّا أواسطَ القرن العشرين، بقرارٍ سياسي شجاعٍ.

وقد شكّلت هذه "الدار" موضوعاً للمحاولات الفكرية وللدراسات التاريخية، فضلاً عن الأعمال الفنيّة، ومن آخرها شريطٌ تونسيّ صدر سنة 2018 من إخراج سلمى بكّار بعنوان "الجايدة" (تعني: المُشرفة على دار جواد). وقد استعاد هذا العمل السينمائي كواليس هذه المؤسسة مصوِّراً تفاصيل واقعٍ مرٍّ، كانت تعيشه المرأة في ذلك الزمن.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تونس لم تكن استثناءً، فقد وُجدت مؤسسات عقابية شبيهة بهذه الدار في بُلدان عربية أخرى، بل يوجد مثلها في البلدان الغربية أيضاً. ولا ندري مَن الذي أثّر في الآخر وحَمله على تقليده. وهل هو مُجرّد توارد خواطر في طرق الإقصاء والمراقبة والاحتجاز؟

وقد شكّل هذا الموضوع ذاتُه مادة فيلمٍ فرنسي، حمل عنوان: "الشيطانَات" (Les Diablesses) ، من إخراج هاري كلفين (2007) ويروي قصةً واقعية لفتاةٍ ألحقت بمعهدٍ ديني، يشبه تماماً في وظائفه "دار جواد"، وذلك بعد أن زَلّت بها الأقدام وتاقت إلى الحرية.

هكذا، تشكّل هذه الاستعادات، بمختلف مشاربها، التقاطاً لمظاهر من الإقصاء الذكوري، في التاريخ المعاصر، مهما كانت الثقافة والديانة، للمرأة ومحاولات إخفائها، بقية الحياة، في دورٍ مُغلقة للتكفير عن ذنبها لتطهير المجتمع مِن أخطائها.

وتمثّل هذه الأعمال تقييماً إيحائياً لجذور هذا السلوك المجحف وبحثاً في أسبابه العميقة. وهذا البحث هو عين ما أنجزه ميشال فوكو، في "المراقبة والمعاقبة" (1975)، حيث بَيّن بمنهجه الحَفري كيف تمارس السلطة نفوذها على الجسد عبر آلية السجن وعبر الخطاب الذي يبرّره. ولعلنا نحتاج إلى أبحاث أعمق في مختلف المؤسسات الاحتجازية والأعمال الفنيّة التي صَوَّرتها، من أجل فهم أعمق لأشكال الاعتقال في المجتمع العربي.

لعله من المفيد أن يُسنَد هذا الاشتغال الفنّي بمقاربات فكرية إصلاحية، كان قد دشّنها المصلح التونسي الطاهر الحداد (1887-1931) الذي كان من أبرز الدعاة إلى تحرير المرأة وتساويها مع الرجل. يقول في كتابه الشهير "امرأتُنا في الشريعة والمجتمع" (1929): "لم تكن المرأة تعرف ما يَجري حولها إذ كانت لا تغادر البيت تماماً، و إذا ما خَرَجت فالحِجابُ يَلفُّها، والنِّقابُ يُخفي وَجهَهَا. (...) فهي تُزفُّ إلى بَيت زَوجِها الذي اختارَه أهلُها مذهولةً، فيباغتها القدرُ إما بزوج دميم أو طاعن في السن فتذبل أو تعبر عن سخطها بإهمال بيتها، فتُوضَع في مَعْهَدٍ زجري يُسمى "دار جواد" لتأديبها، فَيُضيَّقُ عليها في طعامها وكسائها ولا تباح زيارتها إلا بإذن ومشقة حتى تثوب إلى رشدها فالإكراه و الجبر هما ما يسوسان حياة المرأة".

ولعلّ الحداد من أول المفكرين الذين وضعوا الإصبع على الدور التعسفي لهذا "المعهد" الذي كان يقضي على ما تبقّى من إنسانيةٍ للمرأة، ويعاملها معاملة الكائن القاصر، منبّهاً إلى أن هذه الممارسات ليست من طبيعة الأمور كما تُبرر ذلك المعتقدات السائدة في زمنه.

ولذلك، اقترح الحداد غلقَ هذه الدار، متبعاً في تحليله لهذه الظاهرة طريقَةَ بحثِ عالم الاجتماع ورجل القانون معاً، من حيث تركيزه على النتائج الاجتماعية والنفسية لهذا الإجراء الزجري وعلى عواقبه الوخيمة على الأهلية القانونية للمرأة ومدى تمتعها بالحقوق ونهوضها بالواجبات.

وقد فهم الحداد أنّ التحرّر هو شرط المسؤولية الاجتماعية التي يُفترض أن تنهض بها المرأة. ولم تكن المؤسسات العقابية إلا أداة معطلة لتحقيق هذا النهوض، مثل موانع أخرى كانعدام الحق في التعليم والعمل وغير ذلك.

ولئن صارت "دار جواد" أثراً بعد عين، فإنّ المنطق العقابي والإجراءات التعطيلية للمرأة لا تزال في حاجة إلى تفكيك منهجي، يذهب إلى أبعدَ من غلق المؤسسات بمعناها المكاني؛ إذ يتعلق الأمر، قبل كل شيء، بمؤسسات ذهنية هي التي تمارس فعل السجن والإقصاء في حق المرأة. وكثيراً ما تصطدم بها المرأة في واقعنا العربي إلى يوم الناس هذا. وفي الحياة اليومية للمجتمعات، ما لا يحصى من نماذج هذا الإقصاء.

المساهمون