الحراك الجزائري في شهره الخامس: مكابدات العسكر والشارع

الحراك الجزائري في شهره الخامس: مكابدات العسكر والشارع

أبو بكر زمال

51DD4141-FF89-45AF-B89F-0FF92DC4CE2E
أبو بكر زمال
17 يوليو 2019
+ الخط -

ثمّة جنون ومكابرة وتصعيد في سماء الحراك الشعبي في الجزائر، وثمّة قلق غضوب وصموت في معسكر العسكر. كلاهما بين شدّ ومدّ وهرج ومرج، وكلاهما يختبر الآخر كلّ ثلاثاء وجمعة. ثمّة مخارج ومبادرات تتناطح وتفصح عن نفسها، وثمّة أخرى غامضة تتسرّب ببطء وتسري بين الأطياف والجموع، وبدأت تتموقع في الفراغ والغياب. ثمّة وجوه ما زالت تسيطر على الصورة والصوت وتعاند وتصرّ على الاصطفاف مع الحراك. وثمة وجوه من نفس الصف تتفاوض تحت الطاولة وفي جنح الليالي، فإذا لم تحظ بالرعاية خرجت تهدّد وتخلط وتطالب وتزايد علناً أو سرّاً أو من ثقوب الأبواب أو من تحتها، لا يهم، فلعلّها تظفر بالقبول.

في شهره الخامس، ما زال الحراك يجمع فكاكه ويحاول ألا ينكسر ويتشتّت تحت ضربات الضغط العفوي والمسيّس، والمبهم والمشحون الذي يُمارَس عليه كلّما أطلّت الأمور برأسها في وضوح شفّاف بلا طلاسم أو أحجيات أو حسابات أو مناورات. وما زال العسكر، اللاعب الأهم في الساحة، يرفع من مستوى وعيه كلّما طغى وهيمن وبسط الضغط من كل الجهات المعلومة والمجهولة، يشدّ الحبل كي لا ينقطع أو يُقطع أو يرتخي.

وعلى طريقة "سمّوا لنا رجالكم وسنرى"، طرحت القوى المعروفة، السياسية منها والنقابية، النخبوية والشعبوية، المدنية والبهلوانية، أسماء مَن تراهم أهلاً للحوار. لم يفلح هذا الأسلوب في جذب انتباه العسكر، ولم تنفع الرسائل السرّية والعلنية في تليين الموقف والرأي، لا لأنهم يرفضون هؤلاء، بل لأنهم يريدون تقديم أجيال جديدة من صنف آخر ومن طينة أخرى لم تمسها لوثة الحكم، ولم تتلوّث بفساد الطبع، ولم تنتش بحلاوة الكرسيّ، ولا الظهور المتكرّر بـ"وجوه صحيحة" منمّطة ومفروضة ومستهلكة، أصحابها "طاب جنانهم" طيلة عشرين سنة أو أكثر.

فمَن مِن هذا الجيل الذي هو في الشارع يعرف حقيقةً هذا الحمروش (مولود حمروش) أو الإبراهيمي أو جاب الله أو بن بيتور أو سيفي أو بن بعيش أو محجوبي، أو غيرهم ممّن سكنوا مطارح الروح وغبشوا مساحات عيون هذا العمر الفتي للمجتمع الجزائري؟

من يمكنه أن يضع الأيقونات الكبيرة في مكانها ويقول لها: "بارك الله فيكم... مشكورون... قدّمتم ما كان عليكم أن تقدّموه. والآن، نريدكم أن تستريحوا وتنعموا بوقت من السلام المريح بعد مشاوير التعب والركض والنضال، ولا نريد أن نقدّسكم، ولا أن نضعكم في مقامات أسطورية وخرافية لا تُمسّ، بل نحترمكم فأنتم بتاريخكم شرّفتم الوطن وأعليتم من شأنه، وعلينا الآن أن نمضي في طريقنا الجديد كي لا نُهلك عقولنا ونعطّل وعينا ونبلّد نظرتنا ونكلّس خطوتنا".

ربّما يعرفونهم، ولكن هذه المعرفة لا تتعدّى الصور المركّبة والمعلّبة المتناثرة في الكتب، في الإعلام، في النت، في الصحف، وفي وسائط أخرى... وها هي نفس الآلة تريد أن تستفرد بالحراك وتجترح لهم، إن لم تكن نفس الوجود، فأراهيط أخرى بـ"لوك" جديد، ونظّارات شمسية حارقة، وشعرٍ مصفوف ملمّع بـ"لبريونتنيل".

يجب على العسكر ألا يرتاب من جيل جديد يمكن أن يلتقطه من هذا الحراك الطافح بهم... ويجب على الجيل الجديد ألا يخشى من عسكر قد يفوقه ذكاءً وخبرة. يحتاج الأمر إلى خيال مكثّف ويد ثقيلة بقفازات ناعمة، تمتد بينهما بلا خلفيات مشكّكة أو نظرات ضيقة، لكي يخطو الحوار نحو دروب وسبل تَخرج بالبلاد من وهم الحلم إلى واقعية الفعل.

يجب فكّ الارتباط مع معانٍ ومفاهيم وضعت العسكر دوماً في خانة القوّة والسيطرة والطغيان... يجب أن تكون الصفحة بيضاء، وأن يُخرج العسكر رجاله ويسمّيهم. لا يُحسن العسكر في مرّات كثيرة التعاطي مع السياسة، عليه أن يتعلّم أبجدياتها بروح جديدة، لا بتلك التي تملّكت جسد السياسة المرادفة للمصلحة الخاصة والمناصب وشدّ الخيوط من وراء الستار... سياسة جديدة تسمّي الأمور بمسمياتها، بلا لفّ ولا دوران ولا ترميز. يجب أن يُطوى كتاب السياسة القديم نهائياً ويُقترح قاموس جديد يبدع في هندسة جسد السياسة بأفكار ورؤى مبتكرة وخلّاقة وملهمة.

وعلى الجيل الجديد أن يغدق على العسكر بروحه المسؤولة وهو يذهب إليه، بمعنى أن يثق في قدرته وحيويته وقوته ونظارة وعيه واتساع آفاق آرائه وواقعيتها ونضجها، وسلامة ما يطرحه من حلول في مجمل قضايا الوطن والمستقبل، على طاولة الحوار بعيداً عن فذلكات وأوهام ودسائس الرموز الزرقاء التي تستميت في التحذير والفزع والرعب من "رونجاس" (حذاء) العسكري.

ماذا يضرّ إن سمّى العسكر رجاله وجلس مع نخب تنعم بعقول نيّرة وخالية من الأفكار المسبقة والجاهزة؟ "واش فيها" لو نزلت نخبة العسكر إلى ميدان الحراك، وتماسّت مباشرة مع هذه الوجوه التي لفحها الحر... مع ذلك "الزاوالي" الذي يحمل علماً ويأتي كلّ جمعة وفي قلبه نار وكمد؟ ماذا لو سمعوا القول والحرقة مباشرةً دون وسيط مريب أو زعيم وهمي أو محلّل مفبرك أو إعلامي مأمور من وراء البحار؟ ماذا لو نزل العسكر أيضاً إلى الميدان ونصب خيماً للإنصات وتبادل الجدل والسؤال والمقترحات مع الجمع الغفير؟ لماذا يترك الميدان ساحةً يملؤها الغير، بمن فيهم الخائن والفلول والعميل والمكرّر والمستهلك ومن مللنا حضورهم وهرطقاتهم وهراءهم؟

ما أشرت إليه سابقاً من مسألة فك الارتباط تبدأ من هنا... من تغيُّر نمط التواصل التقليدي بين العسكر والحراك. البعد عن خطب الثلاثاء، ورسائل النخب البائسة، والاتكال على بعض نشطاء فايسبوك في الترويج المضحك والهزلي لمنجزات العسكر، وتدريب القنوات الإعلامية على التعاطي مع الحراك بكل فخر وموضوعية دون تحميله أكثر مما هو عليه حقّاً... والبدء في رسم إيقاع جديد لبداية جديدة تتجاوز فظاعة ما حدث وترك الأمور التي باشرتها العدالة تأخذ مجراها الطبيعي، لأن التركيز عليها سوف لن يزيد في هبوب الريح إلّا الريح وسنبقى نتلولب ولن نتوقف أبداً.

وصل الحراك إلى شهره الخامس وقد وجد ملاذه وخلاصه في شارع حيران متصالح مع الرفض والتمرّد، ودونه مجرّد قيل وقال: قرّر، واقترح، وصاغ، وأعتقد، وفي رأيي، ولطالما حذّرت، وأذكّركم أنني كتبت هذا قبل أن يحدث هذا، ونبهت في منشور، وغيرها من التعابير والجمل والكلمات... تأتي مرّة من هنا ومرّة من هناك، تديم الأزمة وترمي بها في نفق طويل غارق في العتمة، وبقي العسكر برمّته ينتظر ويقترح ما يراه واضحاً من أوراق تعبّد الطريق والمسار والسبل الناجعة الملتزمة بالقوانين والأعراف، تحمي الخطوات وتكابد اللحظات في صراع قاس مع الوقت وقوى فظيعة غامضة تبتغي هاوية لا مستقر لها وفوضى مستعرة... ولم توفّر المعارضة أو القوى الأخرى حلّاً صافياً غير معطوب بالنفاق والكذب والحلول الآنية يمكنها أن تنعش الجوّ، ولم تعثر أركان الدولة على أرض تستقر فيها، وكل ما تنطق به يزيد في الاحتقان والتذمر والعصيان.

كنت كتبت في مقال سابق أنه لا لاعب في الملعب سوى اثنين: العسكر والحراك، وها قد حان الوقت ليسمّي العسكر رجاله ويسمّي الحراك رجاله الجدد.


* كاتب من الجزائر

ذات صلة

الصورة

منوعات

أثار كاريكاتير نشرته صحيفة الراي الكويتية، الأحد، استياء الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي في الكويت، الذين انتقدوا الصحيفة بسبب الكاريكاتير الذي وصفوه بـ"المسيء" لموقف الدولة الرسمي والشعبي من دعم القضية الفلسطينية.
الصورة

منوعات

آلاف المقابر في جبانة عتيقة مترامية الأطراف في القاهرة أصبحت تحت تهديد مشروع حديث لتوسعة طرق ومد جسور لتخفيف الازدحام في القاهرة، مما تسبب في احتجاجات بين دعاة الحفاظ على التراث وعائلات الموتى المدفونين فيها.
الصورة
ماريا ريسّا (إزرا أكايان/Getty)

منوعات

أصبح الرأي العام يولي اهتماماً أكبر لمشاهير ومؤثرين وشخصيات معروفة على وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بالصحافيين، وفق تقرير نشره معهد رويترز لدراسات الصحافة يصدر سنوياً عن الأخبار الرقمية.
الصورة

منوعات

تشغل الأدوات الرقمية مساحة أكبر في أماكن العمل حيث تؤدي دوراً مساعداً للموظفين في القيام بمهامهم، لكنّها تحمل أيضاً مخاطر "الإجهاد الرقمي"، إذ تشير دراسة حديثة إلى أن 31 في المائة من الموظفين يفرطون في الاتصال بهذه الخدمات.

المساهمون