محمد الصفّار.. فقيه مغربي في باريس بأمر سلطاني

محمد الصفّار.. فقيه مغربي في باريس بأمر سلطاني

13 يوليو 2019
(كشك لبيع الصحف في باريس، 1867)
+ الخط -
لم تكن رحلة محمد الصفار إلى فرنسا، وعاصمتها باريس، والتي قام بها ما بين 1845 و1846، رحلة من أجل الترفيه أو إشباع الفضول، بل كانت رحلة في مهمة إدارية، ذلك أن السلطان المغربي المولى عبد الرحمان، سيقرر إرسال سفير له إلى فرنسا، بما جرى إقناعه بأهمية ذلك على المغرب، الذي كان يعيش في تلك الفترة تحت تحرشات عدد من الدول الكبرى الراغبة في النيل من سيادته.

وهكذا سيجد محمد الصفار، الفقيه وعالم الدين، نفسه تحت طلب السفير عبد القادر أشعاش، الذي ولاه سلطان المغرب القيام بتلك المهمة.

وكان أول من حقق هذه الرحلة الباحثة الأميركية سوزان ميلار، التي نالت عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميشغن، في شعبة التاريخ سنة 1976.

وقد طبعت هذه الرحلة وصدرت بالإنكليزية سنة 1992، كما يوضح ذلك الدكتور خالد بن الصغير، الذي قام بتعريب الرحلة وشارك في تحقيقها مع الباحثة الأميركية بناء على رغبة من الجانبين، ومن أجل إخراج هذه الرحلة باللغة العربية منقحة ومضبوطة، بعدما صدرت أول الأمر باللغة الإنكليزية.


أهمية الرحلة

تكتسي رحلة محمد الصفار إلى باريس أهمية تاريخية خاصة، ذلك أنها تزامنت مع أحداث كبيرة ومدوية عرفتها منطقة شمال أفريقيا، وعلى وجه الخصوص المغرب والجزائر. فقد احتلت الأخيرة من طرف الفرنسيين سنة 1830، وجرت محاصرة الأمير عبد القادر الجزائري، الذي فر من الجزائر إلى المغرب. وحين علمت السلطات الفرنسية بوجوده على التراب المغربي أصبحت تطالب السلطان المغربي عبد الرحمان بن هشام بضرورة طرد الأمير المجاهد أو القبض عليه وتسليمه إلى فرنسا.

ولأن ذلك لم يكن ممكنا بالنسبة للسلطان المغربي، الذي حارب الفرنسيين مع عبد القادر الجزائري في وهران، وانهزم جيشه في معركة إيسلي سنة 1844، فقد تزايدت الضغوط الفرنسية على القصر المغربي، مستعينة بالعديد من الأثرياء المغاربة الذين جرى استقطابهم، كي يعدل الملك المغربي عن الدعوة للجهاد التي كان قد أعلنها ضد الأجانب ومنهم الفرنسيون.

ففي هذه الظروف الحساسة وحالة الفوضى التي بدأت تعيشها البلاد، ورغبة فرنسا في ضم ثاني بلد في منطقة شمال أفريقيا بعدما استتب لها أمر الجزائر، جعلت المولى عبد الرحمان ومن يأتي بعده، يلين موقفه، ويستجيب تباعا للضغوط الفرنسية، ومن هنا جاءت رحلة محمد الصفار إلى الديار الفرنسية، مرافقا للسفير المغربي أشعاش، الذي بعثه السلطان لملك فرنسا من أجل "توطيد" العلاقات والتعرف على طرق تدبير الأوروبيين لحياتهم ودولتهم.

يكتب محقق الرحلة الدكتور خالد بن الصغير في دراسته حول رحلة الصفار: "يمكن قراءة رحلة الصفار، وغيرها من الرحلات العربية التي يعود تاريخها إلى الحقبة نفسها، بطرق عديدة. أولا، فهي مصادر إخبارية ذات فائدة لإعادة بناء تصورات خاصة للواقع، إذ تكون بمثابة خزان تودع فيه الوقائع لوضع المشاهد المتباعدة في الزمان والمكان في إطارها الحقيقي.

ثانيا، وكما سبقت لنا ملاحظة ذلك، يقدم لنا هذا الصنف من الكتابة نظرات خاطفة عن التجربة الإنسانية خلال هذه الرحلة، وتتيح فرصة المشاركة في تلك اللحظات التي يقع فيها الاتصال بين الرحالة والعالم الخارجي، والتي تضيء المشاعر الداخلية المواكبة للرحلة.

لكن هناك أيضا بعدا ثالثا تحققه كتابات الرحلة، وتصبح له معان خاصة، حينما نحاول جاهدين التوصل إلى الأشكال الثقافية المختلفة عما هو سائد عندنا. وبما أننا نتحول إلى طرف مرافق للرحالة طوال رحلته، فإننا لا نكون منشغلين فقط بما شاهده الرحالة في أوروبا، بل نكون أيضا مهتمين بالكيفية التي شاهد بها تلك الأشياء، وبالطريقة التي انعكست بها على مشاعره وذكرته بما هو سائد في بلده".


إدراك الفارق

هكذا تحدث الرحالة المغربي محمد الصفار عن الصحافة وهو يزور باريس في منتصف القرن التاسع عشر، مبهورا من "الكوازيط" (الصحف) التي يقبل عليها الناس في باريس، سواء عن طريق الاشتراك أو بالبيع في المحلات أو بالقراءة في المقاهي، وكانت الصحف وقتها تسحب أكثر من 15 ألف نسخة في اليوم من كل صحيفة، ولو قارناها اليوم بصحفنا في بلداننا العربية التي لا تبيع لخجلنا، لإدراكنا معنى الفارق الحضاري بعد حوالي قرنين من هذه الرحلة.

يقول في هذا النص الممتع من رحلته إلى الديار الفرنسية: "ولأصحاب الكوازيط مراسلات ومكاتبات مع سائر البلاد، ولهم في كل بلد من يعرفهم بأخبارها وما وقع فيها أو بلغها من جهة أخرى، فلذلك تجد أهل الكوازيط يعرفون غرائب الأخبار، فإذا أمسوا أتى كل واحد منهم بما جمعه في ذلك اليوم، فيطبعه صاحب الكازيطة، ويجعل منه عدة وريقات بطبع الأسطنبا.. فإذا أصبح، فرقها على من يأخذها منه، يبعث لكل واحد من مرتبيه ورقة".

وعن الحياة الاجتماعية والفضاءات الموجودة يرصد "وكذلك سائر القهاوي كل يوم ترسل لهم كوازيط متعددة من عند أناس شتى. فإذا دخلها الداخل، فأول ما يناوله الخادم الكازيطة ليطلع على ما تجدد من أخبار، ثم يأتيه بالقهوة ويتحافظون عليها ويرفعونها".

كما يتحدث عن طرق توزيع تلك الصحف "ومن جملة ما هو مرقوم صدر الكازيطة، أن ثمنها كذا في العام. وكنا مدة إقامتنا بباريز، كل يوم تأتي لصاحب الدار التي كنا فيها كازيطة جديدة من أصح كوازيطهم أخبارا".

ولا يفوته أن يقف على حجم المبيعات، ما يعني أن حركة القراءة كانت نشيطة في ذلك الوقت من منتصف القرن التاسع عشر، في حين كان العالم العربي يتخبط في الجهل والأمية، يكتب "وكان يقال إن صاحب الكازيطة المذكورة يطبع كل يوم نحو خمسة عشر ألف كازيطة".


الأموات الأحياء

لا يفوت الصفار عقد المقارنات بين الأنا والآخر، وبين ثقافة المغربي والعربي عموما المستمدة من تاريخ متجمد في الزمان والمكان، وبين ثقافة الأوروبي، الجريئة المنفتحة على المغامرة والعلم.

ولعل التجلي الأمثل لهذه المقارنات/ المفارقات في مقدار الاحتفاء بالأموات في مدافنهم الأبدية. فالمقابر عموما تمنحك نوع التقدير من بني البشر الأحياء لمن غادروا هذا العالم. سيجد الصفار ولا شك واقعا فسيحا وشاسعا من التفاوتات التي لا يمكن إلا التوقف عندها.

فأثناء زيارته لـ"البنطيوا"، مقبرة العظماء في باريس، سيكتشف مقدار عناية الفرنسيين بعظمائهم، كما سيزور قصر فرساي، وستأخذه "التصاوير"/ الأعمال الفنية واللوحات التي تؤرخ لانتصارات الفرنسيين. يقول عن قصر فرساي "وغالب درج هذا القصر من المرمر الملون، وفيه مواضع وبيوت كانت لسلطانهم لويز السادس عشر. ولما مات بقيت تلك الأماكن على هيئتها بجميع أثاثها، يحفظ ويصان، حتى فراشه ومواضع جلوسه وتاجه وكنيسته، الكل باق على حاله إلى آخر ما هنالك من الزخارف".


دار الأسطنبا.. أو المطبعة

يمكن ملاحظة الانبهار البيّن لمحمد الصفار بالجو الفرنسي، والمكتسبات الحضارية والعلمية والتقنية التي وجد عليها فرنسا، وقد روعته وفتنته باريس، كما فتنت من سبقه. ولا شك أنه قرأ رحلة رفاعة الطهطاوي، الذي زار قبله باريس وأقام فيها مدة ناهزت خمس سنوات، وربما أفاد منها، وهو في كل الأحوال لا يخفي ذلك، بل يذكره في متن رحلته، وكأنه يشكل دليلا له على إنجاز هذه المهمة الصعبة التي أوكله إياها السلطان المولى عبد الرحمان، بكتابة فصول الرحلة من ألفها إلى يائها، وهو ما فعله محمد الصفار.

الدهشة، هي الكلمة المناسبة التي تختصر وصول الوفد المغربي إلى باريس. وهي دهشة من ناحية متبادلة، الوافدون الجدد يرون بمنظار الإعجاب إلى هذا العالم الماثل أمامهم، من التطور والتمدن. وأهل الدار، الفرنسيون، ينظرون إلى هؤلاء المغاربة القادمين من وراء البحر، وكأنهم "متوحشون" لم تصلهم مدنية باريس بعد.

وقد توفق الصفار في وصف تلك الحشود التي كانت ترابط في الطرقات والشوارع في باريس مستمتعة بمرور موكب السفير المغربي وصحبه. بل إن بعض الفرنسيين حاول الحصول على منافع مادية من الوفد بالمرابطة أمام الدار التي يقيمون فيها أو كتابة رسائل إليهم يطلبون فيها التبرع لهم بمالغ مالية.

ويترجم هذا الاندهاش عند حديث الرحالة المغربي الصفار عن "الأسطنبا" أو المطبعة، يقول "وأعجب ما رأينا عندهم من آلة الكتابة، نوع خاص يطبع الكتاب بأي خيط شئت، عربيا أو أعجميا، مغربيا أو مشرقيا، أو كيفما شئت. وذلك أنهم يأتون بالورقة مكتوبة بمداد خاص يصنعونه مستحمر اللون كمداد الجوز، فيضعونها على حجرة عندهم، ويشدون عليها ثم يحلون عنها، فتطبع الكتابة في الحجرة كما هي في الورقة. ثم يطبعون على تلك الحجرة ما شاؤوا من الأوراق بعد أن يدهنوا الحجرة بذلك المداد، فتخرج الأوراق مكتوبة بمثل الكتابة الأولى من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تغيير".

لا يكتفي الصفار بوصف المطبعة فقط، بل يتحول من الملاحظة إلى التجربة، حتى يكون لكلامه مقدار من الصدقية، يقول "كتبت بيدي سطرا بذلك المداد في ورقة، ووضعوها في الحجرة فانطبعت فيها الكتابة. ثم طبعوا على الحجرة ورقة أخرى، فخرجت بمثل ذلك السطر بعينه. فمن أراد طبع، بل تعديد كتاب بما شاء من الخطوط، فينسخه أولا بذلك المداد ثم يطبع منه ما شاء، فيخرج الخط الأول بعينه".

إعجاب بالحياة الباريسية

سيكون محمد الصفّار أسير دقة الحياة في باريس، ولأشد ما سيثيره هو الحياة السياسية الفرنسية والتنظيم الإداري. وهو حين يتحدث عن ذلك، كما فعل قبله رفاعة الطهطاوي، يحاول أن يقدم لرجل الإدارة وللمشرف على الدولة، السلطان، في المغرب، الوصفة السحرية للتقدم والتطور.

ويجمل ذلك في قوامين، الأول هو حياة سياسية نشطة، تتجلى فيها روح الديمقراطية الغربية، فأي بلد لا يتوفر على "قمرة" للأعيان، أي غرفة الأعيان، وغرفة للنواب كما هو حال فرنسا، لا يمكن أن يتطور، ولا يمكن لنظامه السياسي أن يشهد نقاشا صحيا وقويا ووطنيا حول قضايا الدولة واختياراتها في السلم والحرب.

كما أن هذا التنظيم السياسي يستتبعه تنظيم إداري يسير بتساوق معه ويرفده ويغذيه، وبالتالي تدور عجلة الدولة دورة كاملة، خصوصا إذا استند ذلك إلى حسن الاختيار في المناصب الوزارية، وبالأخص القطاعات ذات الوزن الكبير.

في تمثله لدور الغرفتين، غرفة الأعيان وغرفة النواب، في التنظيم الفرنسي في تلك الفترة، يكتب الصفار "والفرق بينهما أن القمرة الكبيرة تحامي الملك ورؤساء الدولة وتعضد أمرها. ومن وظيفتها، تجديد قانون مفقود أو إبقاء قانون موجود على حاله.

والصغيرة تحامي عن الرعية وتنصرها وتطلب حقوقها، فكأنها خصم للأخرى. ولا يحضر القمرة الكبيرة إلا من بلغ خمسة وعشرين سنة، ولا يستحق الكلام فيها إلا إذا بلغ الثلاثين، إلا إذا كان من أقارب الملك، فإنه يدخلها من صغره، ولا يستحق الكلام فيها إلا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة. والذين يحضرون القمرة الكبيرة، غالبهم رؤساء الدولة والوزراء والقضاة والحكام، وكبراء معلومون لذلك.

والذين يحضرون في الصغيرة هم وكلاء الرعية يبعثونهم من سائر البلاد، وعددهم أربعمائة ونيف. ويشترط فيهم وفيمن ينتخبهم للإرسال، شروط معلومة عندهم: منها أنه لا يدخل هذا الديوان ويستحق الكلام فيه إلا من بلغ أربعين سنة. وأن تكون له أملاك يؤدي عنها لبيت مالهم في خراجها ألف فرنك. ومن شرط من ينتخبهم أن يبلغ عمره ثلاثون سنة، وأن تكون له أملاك يؤدي عليها ثلاثماية فرنك فأكثر في العام.

وهذا الديوان لا يفتح إلا من رأس السنة لرأس السنة، ولا يفتح إلا إذا أمر السلطان بفتحه. ومتى أراد إبطاله أبطله، بشرط أن يجدد آخر بأناس آخرين، وأن لا يزيد في تجديد الآخر على ثلاثة أشهر.

ولا يمضي قانون من قوانينهم ولا حكم من أحكامهم، إلا إذا اتفق عليه أهل القمرة الصغيرة وأهل القمرة الكبيرة، والسلطان ووزراؤه. واما أحكام النوازل والجزئيات، فهي عندهم مدونة في الكتب. ولا يستقل السلطان وحده بحكم من الأحكام، لكن لا يمضي بحكم إلا إذا أنفذه أمره.

وهو أعظم أهل الدولة: فهو الذي يأمر وينهى في عساكر البر والبحر، وهو الذي يعقد الحرب والصلح والمعاهدة والتجارة بين أهل ملته وغيرها، وهو الذي يولي المناصب الأصلية ويجدد بعض قوانين وسياسات ويأمر بما يلزم ويمضيه. لكن بعد اتفاق من ذكر عليه، وهو الذي يتولى الإمضاء".

المساهمون