كاتي كولفيتس تحتضن طفلاً ميتاً

كاتي كولفيتس تحتضن طفلاً ميتاً

19 يونيو 2019
(مقطع من لوحة "الأم تحتضن طفلاً ميتاً")
+ الخط -

في السنة الثالثة من الجامعة، وفي مساق "علم اجتماع الفن" تحديداً، وهو مساق يتناول نشوء نظريات الفن واستجابتها لتطور الأنساق الاجتماعية، عَرض علينا مدرّس المساق لوحةً لامرأة تحتضن طفلاً ميتاً. استخدمت رسّامة اللوحة، كاتي كولفيتس (1867 - 1945) الخطوط السوداء الداكنة وتدرجاتها في إشارة إلى منسوب البؤس والفجيعة الكامنة في اللوحة التي تنتمي إلى جيل الفنون التي تترافق مع انهيار المجتمعات وقيمها، وهي لوحة تم إنتاجها بعيد الحرب العالمية الأولى، في ألمانيا تحديداً.

تُعد كولفيتس من أشهر من أعادوا إنتاج المأساة الألمانية في اللوحات التعبيرية... هناك لوحة حزينة أيضاً اسمها "أطفال ألمانيا يتضوّرون جوعاً"، وجوه بائسة لأطفال يحملون صحون الطعام الفارغة وينظرون إلى الأعلى. تقول في إحدى مقابلاتها: "وأنا منهمكة في الرسم، أبكي مع هؤلاء الأطفال الذين أرسمهم، إنني أشعر بالعبء الذي أواجهه، أشعر بأنه ليس لي الحق أن أنسحب من مسؤولية أن أكون صوتهم. لم أعد ألتفت لأي مشاعر أخرى، أنا منهمكة في الرسم، بالطريقة التي تشبه رعي الأبقار".

تَعتبر كولفيتس نفسها تلميذة للرسّام الألماني ماكس كلينجر الذي أظهرت منحوتاته ولوحاته قدرة فائقة على إعادة إنتاج الوحشة البصرية في قالب سريالي يبعث في النفس شعوراً غرائبياً. لوحة "القفازات في الثلج" هي إحدى أهم أعماله على الإطلاق، وهي عبارة عن صور رآها كلينجر في أحد أحلامه لقفازات متجمدة في حلبة للتزلج على الجليد. للوهلة الأولى، يبدو أن اللوحة تنتمي إلى رومانسيات الفن التشكيلي، لكن ثمة رأياً عند بعض علماء النفس يعيد المشاهد البصرية في الأحلام إلى مناطق حزينة في الوعي.

في عام 1937، عرض بابلو بيكاسو لوحته التي تحمل العنوان نفسه "الأم مع طفلها الميت" في الجناح الإسباني بمعرض باريس الوطني، وهي اللوحة التي تلت عمله الأبرز "الغرنيكا" وأكملتها. جسّدت "الغرنيكا" مأساة البلدة الباسكية الإسبانية التي فجرها النازيون عام 1937، أمّا اللوحة الأخرى فظهرت كقطعة إضافية لها (قوة الرمز في مقابل الحرب)؛ مستعملاً نفس الخطوط ونفس القطع الرسومية.

رسم بيكاسو لوحته تخليداً للأمومة المنتهَكة في الحرب، حيث تظهر فيها سيدة تحتضن طفلاً ميتاً بيد، بينما تدفع يدُها الأخرى جداراً أسود، فيما تندفع خطوط الشمس من جهة الأم إلى الجهة الأخرى. ورغم أن اللوحة تلت لوحة كولفيتس زمنياً، إلا أن لا أحد من النقاد ربط بين اللوحتين في سياق ما بات يُعرف أيامها بفنون وآداب مآسي مرحلة الحروب الكبرى في أوروبا، لا سيما الحربين العالميتين.

وبالعودة إلى كولفيتس، التي تركت أكثر من 275 لوحة، كلها بالأسود والأبيض، قبل إعلان السلطات النازية في العام 1936 عن تدهور لوحاتها وانحطاطها، وبالتالي إزالتها من المتاحف، إثر نقدها المتواصل للظروف الاجتماعية والاقتصادية في ألمانيا النازية، فإن لوحة "الأم التي تحتضن طفلاً ميتاً" كانت تعبيراً عن حزنها الشديد لفقدان ابنها في الحرب العالمية، ومع أن ابنها بلغ الواحدة والعشرين لحظة مقتله، إلا أنها أعادت تمثيله كطفل صغير، في حين بدت الأم في هيئة رثة لدرجة التوحش.

اختلط الأمر علينا، نحن الطلبة، أيامها، بحيث بدت الأم، لنا، أقرب إلى أنثى الغوريلا منها إلى الأم البشرية، لولا أن عنوان اللوحة كان واضحاً.

الحزن في اللوحة بدا توحشياً، بمعنى تضخم الحالة الشعورية لانعدام القدرة على استعادة الحياة في مقابل حالة صنمية للطفل الميت. ثنائية مكثفة وصادمة. كولفيتس في معظم أعمالها بدت مسكونة بهواجس الأم الضحية التي تدفع ثمن الكارثة. انظروا لوحة "أمّهات" وكيف يتمثل الخوف والبؤس وانغلاق بوابة الأمل في مشهد بصري صفري وساحق.

المساهمون