إدموند دوتي.. إثنوغرافيات في بلدان المغرب العربي

إدموند دوتي.. إثنوغرافيات في بلدان المغرب العربي

27 ابريل 2019
ضريح مولاي إدريس زرهون في المغرب، 1900
+ الخط -

من حيث المعنى والمبنى، يمكن اعتبار كتاب "الصلحاء" للإثنوغرافي الفرنسي إدموند دوتي، ترجمة محمد ناجي بن عمر، كتاب رحلة، فهو يقدم صورة تقريبية عن الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية في بلدان المغرب العربي في القرن التاسع عشر.

وهي مرحلة حساسة جدا على جميع المستويات، فمن ناحية هناك الحركة الاستعمارية النشطة، التي توجت باحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، بعد فصول مقاومة شرسة شارك فيها الجزائريون والمغاربة جنبا إلى جنب، بعدما استشعرت السلطة المركزية في فاس أن احتلال الجزائر من طرف الفرنسيين يعني في المقام الأول، البداية العملية لبسط الهيمنة على المغرب.

ومن ناحية أخرى، الضعف العام وتهلهل الوصي التركي، الذي بدأ ينكمش منذ بداية القرن التاسع عشر، بعد تنامي الهيمنة الأوروبية وتوجهها إلى تفكيك الولايات والأقاليم التابعة للإمبراطورية العثمانية، وهذا ما جعل دار الخلافة تعيش أصعب أوقاتها، في حين كانت السفن الحربية والجيوش الأجنبية تطل على البوسفور، كمقدمة على أن أرض المعركة المقبلة ستكون هناك، بعد نجاح فصل الأجنحة عن جسد الباب العالي.

هذا هو الإطار العام الذي تتحرك فيه رحلة إدموند دوتي إلى بلدان المغرب العربي: خصوصا، تونس والجزائر والمغرب. وهي ليست الرحلة الوحيدة لدوتي ولا لغيره من جحافل الباحثين والرحالة و"المستشعرين" والأطباء والقساوسة، الذين انطلقوا باكرا في سباق محموم، قبل أن تطل المدافع بأعناقها وتهدم أسوار المدن التاريخية في تلمسان ووهران والجزائر وتازة وفاس ومكناس، في مشهد دموي مروع يكشف زيف أطروحة الغرب ويزيح الستار عن نواياه في السيطرة والإخضاع وتفتيت الدول والمجموعات البشرية.

ولذلك فإن مشاهدات دوتي، وتركيزه على دراسة السحري والعجائبي والطقوسي في حياة شعوب بلدان المغرب العربي، كان هدفها الأساس كشف طبقة اللاوعي التي تخدم هذا المجال الجغرافي الواسع، وتبيان مدى نجاح المقاومات الداخلية التي يبديها نحو الغرب والآخر، وكيف يمكن تفتيت هذا اللاوعي، حتى لا يتحول إلى عقبة أمام المستعمر القادم بأطروحة الترهيب والترغيب، ويتمكن من تحويل إنسان المنطقة إلى إنسان آخر، بلا تاريخ ولا ذاكرة.

يشير دوتي إلى أنه من الصعب تماما الإخضاع الكامل لهذه الشعوب والقبائل المتنافرة، والمنتظمة في الآن نفسه ضمن بنية دينية عميقة يشكل الإسلام لحمتها وسداها، لكنها تغرف أبعد من ذلك، حين تصهر كل ذلك مع تقاليدها وعاداتها البعيدة في الزمن، والتي لربما هي نتاج ممارسات طقوسية وثنية ومسيحية ويهودية، لم تنكص تتجلى حتى مع مجيء الدين الجديد "الإسلام".

وقد وقف دوتي على الكثير من هذه التفاصيل وحاول أن يتأملها بمنظار الباحث الإثنوغرافي، وربما أضاء على بعضها بجدية ونجاعة، فيما غابت عنه تفاصيل أخرى لم يكن ليدركها، لأنها ترتبط بمجال غيبي شديد الخصوصية، وعلى وجه التحديد ما يتعلق بأولياء الله الصالحين، أو الصلحاء، وكراماتهم، وكيف يأتي لهم الناس أفواجا، وهم أموات خلف أضرحتهم المجللة بالعمارة العربية الإسلامية المميزة، وعلى قبورهم المطرزة بالقماش والموشّاة بالمعادن النفيسة، ثم كيف يتسنى لهؤلاء الذين كان لهم في ما مضى صيت وكلمة مسموعة وهيبة أن يحكموا الأحياء من وراء قبورهم الوارفة في الظل.


الميت يحكم الحي

إن استنباط القوة من الماضي ومن "الميت/ الحي" هو أشد شيء كان يخيف المستعمر الجديد، لأن أي فعل من أفعال المقاومة بالنسبة للسكان الأصليين والأهالي هو مصدر إزعاج وتشويش، ولذلك سعى الفرنسيون على وجه الخصوص إلى تفكيك ظاهرة الأولياء، ومحاولة القضاء على رموزها المضيئة، وردم كل ما من شأنه أن يكون خارطة طريق جديدة تسعف السكان الخاضعين بقوة السلاح والنار، على لحظة استعادة للذات.

لقد كان هناك وعي كولونيالي بأن الإسلام الشعبي سيف ذو حدين، ففي حين يسهل إخضاع النخب العالمة وترويضها وإغراؤها بالمناصب والامتيازات وإشراكها بصورة شكلية في إدارة شؤون الأهالي، وهذا ما وقع بالفعل للنخب في تونس والجزائر والمغرب.. في ظل كل ذلك الإغراء الذي يتخذ عدة أشكال ومنافع، يصعب ترويض الوعي الشعبي القائم على الخرافة، والذي ينتظر بطله المخلص ليقوده صوب النصر والخلاص.

وقد يكون هذا البطل وليا صالحا من زمن مضى، ولم تبق غير قبته مزارا لأتباعه المأزومين، وقد يكون بطلا طالعا من تطلعات شعبه، بانيا مشروعيته على ظلال الماضي، حيث يسعف الميت الحي في لحظة عبور من القهر إلى الكرامة ومن العبودية إلى الحرية.

يكتب دوتي "إذا كانت هناك فكرة متأصلة في أذهان عموم الناس عن دين محمد، فهي أنها تتلخص في بساطته، إنه كما يقال ديانة توحيدية كبرى، مطلقة قارة وباردة جدا، حيث تنعدم الوسائط بين الخالق والمخلوق. إذ يكفي المرء، كي يكون مسلما، النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

ويضيف دوتي أن البربر لما جاءهم الإسلام لم يتقبلوه إلا بصعوبة، وقد ارتدوا عليه أكثر من اثني عشر مرة، مستندا في ذلك إلى ابن خلدون.

ولذلك يشير إلى أنه لم يكن مستغربا أن تبقى قضية زيارة الأولياء جزءا من ممارسات الإسلام الشعبي في بلدان المغرب العربي، وهي ممارسة تبغي التبرك ونيل الرضى من الخالق حتى بتوسيط شخص آخر، قد يكون وليا صالحا،

وقد حظيت الزاوية الدرقاوية مثلا بهذا الهالة، كما أن المهدي ابن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية، "انصاع إلى لعب دور المهدي بسبب ميل هؤلاء البربر إلى تأليه الشخص، وقد استغرب كل الرحالة الذين زاروا المغرب بمن فيهم أولئك الذين يسافرون من أجل تحصيل علوم خارجة عن نطاق القضايا الدينية من انتشار زيارة الصلحاء، إلى درجة أن ليون الأفريقي(الحسن الوزان) شبههم بأنصاف الآلهة، ورغم أن غولف Rohlfs متعود كثيرا على معاشرة المسلمين فإنه استغرب كيفية تعلق القبائل برمتها بشريف وزان، ليلمسوه ولو بالإصبع".


أصول زيارة الأولياء

يحاول دوتي أن يتقصى في أصول عادات زيارة الصلحاء والأولياء في بلدان المغرب العربي، وهو في البداية ينشده من طغيان الظاهرة التي لا تقتصر على منطقة دون أخرى. بل تكاد تكون شاملة، اللهم مع بعض الاستثناءات التي لحقتها ترسبات وهابية حيث لا مجال لتقديس الموتى.

يشير دوتي إلى أن الظاهرة ظلت موجودة في هذه المنطقة، لكنها عرفت انفجارا في العصر الوسيط، ففي القرن السادس عشر كانت الظاهرة لافتة للنظر، "على حين غرة لم يستطع أي أحد من المؤرخين معرفة طبيعة تكونها".

ويضيف دوتي "حيث انطلق الصلحاء، كما يزعم بعضهم، من الساقية الحمراء، أي من عمق المغرب الأقصى لينشروا في كل أنحاء شمال أفريقيا". وقد استطاع هؤلاء تكوين شبكة من الأولياء والصلحاء امتدت إلى العمقين المغربي والجزائري، في هيمنة مفكر فيها على هذا المجال الجغرافي المتنوع، والذي يضم العرب والأمازيغ، وكانت لدى الناس حاجة للانعتاق من ضغوط رهيبة ما.


متوالية متجددة

هل انتهى زمن الصلحاء والأولياء؟ يجيب دوتي بأن زمن الصلحاء لم ينته، وأن هؤلاء ما زالوا يتوالدون بيننا، ويزدادون بين ظهرانينا "فإلى اليوم يقوم العامة من الناس بإضفاء القداسة على الصلحاء كأفراد يبدو أنهم تلقوا البركة من الله.

وعندما كان تروملي يقول إن الكرامات أصبحت اليوم في ندرة أكثر مما كانت عليه في الماضي، فإنه يكون بذلك قد جانب الصواب، ما لم يتعلق الأمر بإحدى مزحاته مثلما ورد في الكثير من كتبه. فكاتب هذه الأسطر نفسه، المكلف بتسيير هؤلاء الأهالي، لم يمر عليه يوم التقى فيه بأحد من الصلحاء المحليين، بمن فيهم الأحياء، دون أن يحدثه عن بعض الكرامات الحديثة تسبيا للصالح/ الولي، فعندما حلف أحدهم على قبر صالح كسر طرفا من أطرافه لدى خروجه منه، فيما كان يسقط أحدهم أرضا ولا يفيق حتى يكف عن بعض الشرور التي اقترفها من قبل.

وأما أحدهم فقد رام الدخول إلى مغارة أحد الصلحاء وما أن دنا منها حتى رأى بابها يضيق عليه حتى لا يكاد يمر منه، بينما عبر رفاقه من المصدقين بسهولة، وقام سي بلقاسم بن الحاج سعيد بأودوغ (قسنطينة) عن بعد بقتل زوجة بوابه، لأنه تنبأ أنها ستأتي الفاحشة".

يحاول دوتي تجميع ملاحظاته ومشاهداته في رحلته في بلدان المغرب العربي، ويروم تفسير الظواهر الخارقة التي ادعى أنه شاهدها أو سمع عنها، لكنه يمعن في المسار الكولونيالي نفسه: الوحشي والغريب مما أغرمت به الدراسات الإثنوغرافية والإنتربولوجية، وأصبحت هواها المكشوف الذي يخفي رغبة السيطرة لدى المؤسسة الاستعمارية التي كانت تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.


حظوة ومكانة وهيبة

للولي الصالح مكانة كبيرة، سواء كان ميتا أو حيا، وفي حالة إذا ما كان حيا يسعى على فرسه أو يجوب الأصقاع على قصبته يجر جرابه، فإن مكانته تكون في الغالب الأعم أرفع من السلطان الذي يحكم الناس، وربما توشك أن تقترب من منزلة الرسل والأنبياء.

فالولي له القدرة على مخاطبة الله دون وسيط وعلى قراءة الغيب، وتلبية طلبات المريدين أو التشفع لهم عند الرسول أو الدعاء لهم دعوة مستجابة، تتجلى نتائجها ومفاعيلها بالعين المجردة، فيزداد الولي الصالح رفعة وسموا، ويصبح سره مفشى بين الناس، فتتبعه العامة ويتودد إليه أهل الخاصة، وقد يستميله السلطان لتقوية ملكه أو بسط هيبته على منطقة أو قبيلة، فكلمة الولي لا ترد وإغضابه يمكن أن يجلب الشرور لمخالفيه.

يكتب دوتي "إن المرء الذي لم يشاهد في المغرب الكبير صالحا من الصلحاء الكبار، وهو يجول بين القبائل التي اشتهر فيها، لا يمكن أن يصل إلى معرفة المدلول الحقيقي لعبارة (تأليه الإنسان) التي سبق أن استعملناها مرات عديدة.

ومع ذلك فهو مشهد يتكرر كثيرا ويتجدد حتى في شوارع الجزائر العاصمة، عندما يزورها أحد الصلحاء، ويتردد على أماكنها الرئيسية، إذ يتسابق الناس إلى الممر الذي سيمر منه هذا الولي الإنسان من أجل تقبيل برنوسه، وتقبيل ركابه إذا كان معتليا فرسه، بله تقبيل آثار أقدامه إذا كان راجلا. ولا يكاد يشق زحمة المعجبين به إلا بشق الأنفس.

وما أن يصل إلى الفندق الذي سيقيم فيه حتى يمتد إليه عشرون ذراعا من هؤلاء يحملونه إلى الطابق الأول أو الثاني، ويتوسل إليه الناس كي يأكل من بعض ما هيأوه له خصيصا، وإن رفض ذلك يطلبون منه تبركا كي يبصق في تلك الأطعمة التي يتنازعونها في ما بينهم للأكل منها. وكل أولئك الذين شاهدوا شريف وزان في جولته بالجزائر قد نقلوا، كما يروون كلهم، مثل هذا الانطباع الذي لا يمحى عن التقديس الذي حظي به هذا الولي.

وكان الرحالة غولف، كما ذكرنا سابقا، أحد الذين دهشوا من المهابة غير العادية التي يحظى بها هذا الشريف. وقد ذكر هو نفسه في رحلته أنه تقمص شخصية الشريف مقدما نفسه كأحد أبناء العائلة الوزانية، فكان الناس يأتونه بالمرضى لمعالجتهم، وكان حزام بندقيته الذي ورثه عن الشريف الوزاني موضوع تقديس حقيقي.

وإذا كان بعض الأولياء يتمتعون بنفوذ إقليمي أو وطني واسع، مثل عبد القادر الجيلاني، الذي كان يمتد سلطانه الكراماتي من العراق إلى المغرب الأقصى، فإن هناك بعض الأولياء من لهم نفوذ ترابي ضيق جدا، ولا يحظون بالمهابة إلا داخل قبائلهم او إقليمهم الضيق، من قبيل ما يورده دوتي، يقول "إن من بين هؤلاء من لا يمارس نفوذه إلا في مجال ضيق نسبيا فيسوده سيدا مطلقا على الأقل.

فعندما دخل دوفوكو إلى أبي الجعد (تادلة/ المغرب) قيل له: (ليس هناك لا سلطان ولا مخزن، فليس هناك إلا الله وسيدي بن داود). إنه الصالح الأوحد للقسم الأكبر من تادلة، وهو لا يعتمد على أي زاوية دينية، بل إنه ليس شريفا بالمعنى الديني للكلمة، ما دام أنه يتحدر فقط، حسب ما يقول، من نسل عمر ابن الخطاب، وهذا مثال عن الصلاح المحلي الذي لم يخضع لأي تغيير".

المساهمون