"زفت لاند" هاني زعرب.. كيميائي الألم

"زفت لاند" هاني زعرب.. كيميائي الألم

13 ابريل 2019
(من المعرض)
+ الخط -
بالأزرق العميق والمذهّب بنور الشمس، كان يجري تجسيد المناظر الطبيعية عند أول تمثيلاتها في الأعمال الفنية، فظهور الطبيعة كان مرتبطاً بالقصص الدينية المسيحية أو الأساطير، حيث الألوان السماوية مجرد خلفية للشخصيات وتعبّر عن المقدّس ممثلاً في الفردوس والجنة.

في المقابل، تأخّر ظهور الطبيعة على حقيقتها في اللوحة، إذ اعتُبر أي تجسيد لها تمظهراً للمدنّس المرتبط بالعالم الدنيوي، مهما كان جمال هذا العالم. بل إن واحدةً من أشهر لحظات رسم الطبيعة في الفن تلك التي قام بها الرسّام الإيطالي أمبروجيو لورنتزي (1290 - 1348) الذي طُلب منه تجسيد الخير والشر في مدينته التوسكانية، فقام برسم التلال والحقول بألوان مختلفة ليصبح عمله نقلةً في تاريخ الفن؛ إذ صوّر الطبيعة دون الحاجة إلى خلفيات دينية تحملها.

وهكذا ظلّت الطبيعة، رغم ما يراه المتلقّي العادي للّوحات التي تناولتها، تجسّد شيئاً آخر غير نفسها. في هذه السياقات المعقّدة التي ربطت لقرون لوحة الطبيعة بالمقدّس والمدنّس، يبني الفنان التشكيلي الفلسطيني هاني زعرب (مواليد رفح، 1976) تصوراً جديداً في معرضه "زفت لاند"، الذي يتضمن ثماني لوحات عرضية، هي مقاربات مفاهيمية لـ"اللاند سكيب"، تُعرض في "غاليري كريم" بعمّان، ابتداءً من الخامسة والنصف من مساء اليوم السبت وحتى الثلاثين من أيار/ مايو المقبل.

يحيل المتلقّي عبارة "زفت لاند" بعفوية على "هولي لاند"، فماذا يفعل الفنّان بين الأرض الزفت والأرض المقدّسة وماذا يرسم؟ عن مجموعته الجديدة، يقول زعرب: "أردت اكتشاف كيفية تحويل شخصية الفضاء المقدّس إلى زفت. لتقليل المسافة بين الموضوع والمفهوم، للتركيز على التدمير المستمرّ لهذه الأرض. وهي التي وجهتني نحو استخدام موادّ حيّة، مثل أغصان الأشجار وبتلات الزهور الجافة وغيرها".

يتابع: "بالتالي، فإن الأعمال ما هي إلا مقاربات مفاهيمية لحجم الدمار والحريق والألم. لأجد نفسي في مواجهة معنى الاشتباك بين المقدّس والملعون، سواء على الأرض أو في العمل الفني. وهنا وجدت نفسي أسأل، هل ثمّة من فرق؟".

يسترسل الفنان، في حديثه إلى "العربي الجديد": "أظن أن الهدف من مصطلح الأرض المقدّسة هو هدف استعماري، وأنا كفلسطيني أرى أن هذه الأرض دُنّست بذريعة أنها مقدّسة". من قبل كان البحث مرتبطاً باستمرار بالقصص والمسارات الشخصية في حياته، هذه التي كانت بدورها انعكاساً لقصص جماعية تعبّر عن الهوية الفلسطينية، لتذهب بعد ذلك بما تحمل من معان إنسانية متجاوزة الحدود والجغرافيا.

غير أن من يرَ لوحات معارضه السابقة ويضِف إليها الحالية، فلن يحسب أنها للفنان نفسه. عن ذلك يعلّق قائلاً: "بصرياً، أتفق معك. لكن جوهرياً، نفس الروح تغلب على الأعمال، وتقنياً ثمة أمور كثيرة مشتركة، فأنا لا أؤمن بالأسلوب. بالعموم انتهت المدارس الفنية بمعناها الأكاديمي وأصبح كل فنان يمثّل حالة ذاتية منفردة".

بدأ العمل بمادة "الزفت" عند زعرب كخامة فنية منذ عام 2007، لكن علاقته بها معنوياً ونفسياً أقدم من ذلك بكثير، منذ اللقاء الأول في غزّة حين كان جنود الاحتلال يرشّون الجدران وأبواب الدكاكين وحتى الأشجار بالقطران، من أجل تغطية الكتابة على الجدران ولمنع الكتابة مرّة أخرى، إذ يعتبرونها تحريضاً. "كلمة زفت مفردة يستخدمها الإنسان العربي في حياته مليون مرّة"، يقول زعرب الذي يروم تحويلها إلى مادّة مطواعة مستكشفاً جانبها الجمالي.

لا شك بأن زعرب ليس أول من اشتغل بالزفت كخامة فنية، لكن منطق اشتغاله بهذه المادّة هو الفريد، يضيف إليها هذه المرة فروع الورود الناشفة والأغصان والموادّ الكيميائية. يشرح: "أشعر بأنها كيمياء الألم، بدأت أغوص أكثر في هذه المادّة "الغلسة" التي لا يوجد أي تواصل بينها وبين أيّ كائن حيّ، حتى الحشرة لو لامستها تموت. مادّة فتحت لي عوالم مختلفة مع موادّ جديدة وطرق رسم جديدة أيضاً".

لم يعد "الزفت" إذاً تعبيراً معنوياً. لقد انتقل مع انتقال الفنّان إلى مرحلة جديدة من معالجة المنفى ورؤية الماضي عن بعد، إلى مادّة فعلاً، عاد إلى أصله خامة تستنجد الفنان تارة وتتحدّاه تارة وتستعصي عليه كذلك، ثم تستسلم لما يتعلّم من تقنيات ويمتلك من أدوات جديدة لتحويلها شيئاً جمالياً ذا معنى.

المفارقة أن "زفت لاند" في البداية كانت أرض استوديو الفنان الشخصي، فذلك المكان الصغير تحوّل إلى شبه مختبر مكتظ بالموادّ والأغراض، وحين كان الزفت يسقط أثناء العمل ليختلط بموادّ أخرى، كان الفنان يكشطه عن الأرضية ثم يعيده إلى اللوحة النائمة على بلاط المحترف أو المرفوعة على سقالة.

علاقة ندّية عدائية مع مادّة ثقيلة الظل والحيوية، رغم ذلك يقول: "لا تتخيّلين الاندفاع الذي لديّ نحو هذه المادّة". ومن خلالها دخل إلى معمل الكيمياء واكتشف وسائل وطرقاً جديدة للتحكم فيها واكتشافها.

"الزفت والمنفى أخذاني إلى منطقة ما كنتُ أتخيّل يوماً أن أصل إليها، لأنني في باريس أصبحت كمن يرى الأمور بعدسة أكبر، فعندما يبتعد الإنسان عن مكان ماضيه يرى جمالياته ويتحقّق منه وفيه أكثر"، يجيب زعرب عن سؤال حول علاقة الفنان بالمكان الأم والمنفى، ويضيف: "أشكر ذلك القدر الذي جعلني أعرف نفسي وأفكّر في طفولتي بشكل حقيقي، بل أتذكّرها بشكل أفضل، فهي قصص أحفر فيها لتدفعني وتحرّك مفاهيمي نحو الحرية والحياة. وبالتأكيد ثمة أمور لا يمكن أن تشكر المنفى عليها، فالذي يخرج من غزّة لا بد له أن يعلم بأن حياته بسب الاحتلال ستكون طريقاً باتجاه واحد".

ما يضيفه الفنان

عند الحديث عن الفن المعاصر، يرى زُعْرُب أن الحرب على الفنون بشكلها التقليدي وطريقة تدريسها أيضاً ليست موجودة في أوروبا، في حين أن صوتها يعلو في الوسط الفني العربي أكثر.

ويؤكد أن ثمة سياسة لمؤسسات فنية تُرغم بصورة أو بأخرى الفنانين على تقديم الأعمال المعاصرة التي تنتمي إلى شكل معين، وتعمل على تكريس صورة واحدة لما هو معاصر؛ وإلا فإن هؤلاء لن يجدوا من يدعوهم إلى التظاهرات الدولية على سبيل المثال.

بالنسبة إلى زعرب ما زال يعتمد ويؤكد بأن المعاصرة هي ليست بالوسيط والمادة للعمل الفني وإنما بما يضيفه الفنان فنياً وفكرياً بطريقة معاصرة بغض النظر عن الشكل البصري لهذا العمل.

المساهمون