وليم لينش.. مغامرات بعثة بحرية أميركية في نهر الأردن

وليم لينش.. مغامرات بعثة بحرية أميركية في نهر الأردن

16 مارس 2019
حجاج مسيحيون يغتسلون في نهر الأردن عام 1845
+ الخط -

في سنة 1848، سيقوم الملازم في سلاح البحرية الأميركية، وليم لينش، وفريقه من الضباط، برحلة استكشافية إلى نهر الأردن والبحر الميت، ثم قام بإصدارها لاحقاً في كتاب بعنوان "نهر الأردن والبحر الميت، الرحلة الاستكشافية لبعثة البحرية الأميركية".

يحكي لينش في الكتاب عن الأهداف العلمية من وراء القيام بهذه الرحلة، التي تعتبر الأولى من نوعها التي تقوم بها جهة أميركية، رسمية، بعد أن أخذ هذا الضابط الجسور في سلاح البحرية الأميركي الموافقات اللازمة للقيام برحلته تلك. وهي رحلة قام بترجمة الجزء المخصص للمنطقة فيها، وما يتعلق برسم ملامح أهلها وسكانها وعاداتهم وتقاليدهم، المترجم سليمان موسى، ونشرها ضمن كتاب إلى جانب رحلات أخرى إلى المنطقة تحت عنوان "رحلات في الأردن وفلسطين".


تجاوز النمطي

نستشف في هذا المقطع من الرحلة ما هو راسخ في الذاكرة عن صورة الأميركي القوي الذي لا يهاب ارتياد المخاطر ولا يرتجف من خوض غمارها، فما معنى أن يأتي وليم لينش على رأس عدد قليل من الرجال إلى هذه المنطقة، ليكتشفها أو ليخبر عنها لاحقاً مسؤوليه، ضمن تقاريره الخاصة، التي لا شك كانت بهدف مخابراتي، يرتدي لبوس البحث العلمي والاستكشاف الجغرافي، خصوصاً أن هذه المنطقة، نهر الأردن والبحر الميت، سيكون لها ما بعدها بعد نحو مائة عام، والتي ستعرف إقامة إسرائيل في 1948.

ولا بد أن يكون ذلك كله قد جاء ضمن مرحلة إعداد طويلة، ستعلن عن نفسها مع إخراج العثمانيين من فلسطين والقدس وحلول الانتداب البريطاني، ثم وعد بلفور، انتهاء بإقامة دولة الكيان الإسرائيلي على حساب أرض فلسطين المغتصبة.

لكن وخارج قراءة النوايا، أو تتبع المسكوت عنه في هذه الرحلة، العلمية، التي لا شك قدمت معطيات دقيقة للإدارة الأميركية في تلك الفترة، عن الثروة المائية لحوض الأردن والبنية القبلية والعشائرية للمنطقة، والمجال الجغرافي والبشري الذي تتحرك فيه، كل هذا سيكون له بالغ الأثر، وربما سيعتمد كقاعدة بيانات مهمة لمن سيأتي بعده، أو لمن يريد أن يفهم في المستقبل المناخ السوسيولوجي الذي كان يطبع الامتداد الجغرافي من يافا إلى القدس ونهر الأردن والبحر الميت.

وهو بلا شك مجال خصب ومتنوع، دينياً وقبليًا، تخضع فيه الحياة الاجتماعية إلى موازين قوى، خلقتها الهيمنة العثمانية، وما رافق ذلك من تشكيلات قبلية، سيكون لها الدور الحاسم في تشكيل وجدان عام في المنطقة برمتها.

يكتب لينش "في أيار 1847 قدمت طلباً إلى قيادة سلاح البحرية لاستكشاف بحيرة الأسفلت المعروفة باسم البحر الميت، وبعد خمسة أشهر صدر الأمر بالموافقة وبأن أتولى قيادة إحدى السفن لتنفيذ المهمة. وبدأت الاستعداد فحصلت على زورقين أحدهما من النحاس والثاني من الحديد، ثم اخترت عشرة رجال من الشبان ذوي الأبدان السليمة ليكونوا بحارة لهما، بعد أن أخذت عليهم عهدا بالامتناع عن المشروبات المسكرة، كما انضم إلي ضابطان لهما معرفة ممتازة بفن الرسم، لكي يكونا مساعدين لي. وبعد أن أتممت جميع استعداداتي صدر لي الأمر بأن أبحر إلى إستانبول، لأطلب من الحكومة العثمانية إذنا بالتجوال في سوريا بهدف استكشاف البحر الميت ومجرى نهر الأردن".


الحصول على إذن عثماني

لم يكن ممكنا في تلك الفترة من حكم الإمبراطورية العثمانية التحرك أو الإبحار من دون أخذ إذن من السلطات المركزية في إسطنبول، وكان على لينش أن ينتظر أياما في الباب العالي حتى يأخذ الموافقات مكتوبة ويقدم جردا مفصلا بالطريق البحري الذي سيسلكه، وكذا بالمناطق البرية التي سيستعملها، حتى يتمتع بالحماية اللازمة، وإلا فإن مروره سيكون مستحيلا تماما، كما حدث في المرات التي جوبه فيها بإبراز موافقات، وكان عليه أن ينتظر كتابا بالسماح بالمرور من ممثل السلطان في دمشق أو بيروت أو من القدس.

إن هذا المعطى، الذي يقف عنده لينش، يكشف من جهة هيمنة ممثلي الباب العالي في جميع المناطق والأقاليم التي كانت تحت السلطة العثمانية، على القرارات واستفرادهم بالإدارة في شبه حالة مستقلة عن السلطة المركزية، بل إن هذه المناصب كانت في الغالب الأعم وجها من وجوه الإثراء وإفقار السكان واضطهادهم، وهو ما لمسه لينش في أكثر من مناسبة إبان رحلته تلك.

وهو من جهة أخرى، يوضح حالة الفوضى العارمة التي كانت تهيمن على هذه المناطق، وتحول الكثير من القبائل العربية إلى "التجارة في طرق العبور"، عن طرق فرض إتاوات، أو انتهاج طرق السلب والنهب والقتل ضد العابرين الرافضين للمساومة، بل إن العبور من هذه المناطق كان مستحيلا تماما بدون أدلاء ومسلحين من أبناء تلك القبائل.

لقد أدرك لينش منذ البداية أن الأمر ليس يسيرا، في هذه المنطقة المجهولة على الأميركيين، لذلك تزود بما يكفي من عدة السلاح ومن الفنيين، واصطحب معه طبيبا حتى يتجنب مصير عدد من الرحالة الاستكشافيين الذين قضوا موتا بسبب الأمراض العارضة خلال رحلاتهم أو بسبب تعرضهم لهجومات قاتلة من قبل قطاع طرق ومتربصين.

كان يريد بكل إصرار أن تنتهي رحلته بالنتائج المرجوة التي خطط لها، لذلك فكر في كل شيء، بما في ذلك تعزيز طاقم الإبحار بوسائل الإنقاذ وحمل ما يكفي من عملة الدولار، لأنه كان يعرف تمام المعرفة أن المنطقة التي هو ذاهب إليها، لا بد أن يتعرض فيها إلى مساومات من قبل حكامها أو القائمين عليها ومن طرف كبار القوم أو من لهم سلطة على طرق العبور والمرور.

وقد أسعفه المال في كثير من الأحيان، كما أن فهمه السريع لدينامية المنطقة، وآليات اشتغالها، بالإضافة إلى حسه التفاوضي العالي، كل ذلك أهله لأن يقود رحلته بالكثير من التوفيق، مع بعض لحظات التوتر. أما لو أنه لم يفرش الطريق أمامه بحسن التدبير، فإنه حتما كان ليفشل مثل الآخرين الذين سبقوه في مهمته، ومات مقتولا في أسوأ تقدير أو لعاد خائبا دون فريقه في أجود الحالات.


خسارة وحيدة

إن لينش في هذه الحالة أحسن حظا، فقد عاد بفريقه كاملا، إلا من ملازم واحد توفي في طريق الإبحار إلى بيروت، ولا يقدم لنا في حقيقة الأمر سبب هذا الموت، وهل تعلق الأمر بمرض فجائي، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة رحلته في اتجاه أميركا، ليكون الزمن الإجمالي للرحلة حوالي 13 شهرا. يقول "ثم زرنا بعلبك وزحلة ومن هناك مضينا من بيروت إلى مالطة، حيث وجدنا السفينة التي جئنا بها أصلا من أميركا في انتظارنا. وأبحرنا على متن السفينة فبلغنا أرض بلادنا في أوائل كانون الأول 1848، بعد غيبة استمرت ثلاثة عشر شهرا".

والرحلة دافقة بالتفاصيل، وفيها خبر لينش الوجه الحقيقي للعرب، وربما يبدو من خلال تدويناته أنه أحبهم وأكبرهم، وخصوصا في المواقف الإنسانية التي تتعلق بشرف الكلمة والافتداء، والإخلاص، وهي كثيرة صادفته، وجعلته يمتدحهم في أكثر من مناسبة في صحف بلاده عندما عاد منهيا عمله "الاستكشافي المخابراتي".


قسوة وشجاعة

سيقف لينش عند حقيقة هؤلاء العرب القساة، الذين لا يحبون الزراعة ويعتبرون أن الرجل الكريم لا يمكن إلا أن يعيش على النهب والسلب والغارات، واضعا حياته دائما في مهب الريح، فالعربي ابن الصحراء يعتبره الزراعة عملا دونيا.

لقد استشعر لينش حالة من الاحتقار كاسحة، على وجه مرافقه الشجاع عقيلة، الذي أحبه حقيقة، وأضفى عليه ما يكفي من صفات المروءة والشجاعة عندما سأله لماذا لا يمتهن الزراعة بدل سلب الناس. هذا الرجل العربي الفارس الذي لا يعرف الخوف قلبه أبدا، والذي مهد له الرحلة وساهم في سلك الطريق أمامه في نهر الأردن وسط قبائل محكومة بثنائيتي الدم والثأر.

يقول مثلا "وبعد موهن من الليل سمعنا حديثا مشوقا دار بين عقيلة وناصر. فقد حدث في السنة الفائتة أن عقيلة كان ثائرا ضد الحكومة وقام على رأس أتباعه من البدو بغارة على هذه السهول واستاق عددا كبيرا من الخيل والبقر والشياه، ومن جملتها قطعان ناصر نفسه. والواقع أنه لم تكن هناك مودة قلبية بين الرجلين منذ لقائهما في طبريا.

ووجه ناصر سؤالا إلى عقيلة: ألا يرى أنه ارتكب عملا بالغ السوء عندما استاق أغنامه؟ وكان جواب عقيلة أنه لم يفعل إلا ما تقضي به تقاليد الحرب بين القبائل، لأن ناصر كان عدوا له آنذاك. وسأله ناصر عما فعل بما انتهب، وعلى الأخص ماذا حدث لمهرته الأثيرة على نفسه؟ وكان جواب عقيلة أنه ذبح الكثير من الأغنام، وأهدى الكثير منها، وباع البقية، وكذلك فعل بالأبقار والخيول. أما المهرة فقد راقت له في نفسه فاحتفظ بها، وهي الفرس التي يمتطيها الآن".


حجاج مسيحيون يغطسون في الماء المقدس

رحلة لينش حافلة بالمغامرات والمواقف الغريبة، وهي مواقف تزكي أن الرحلة لم تكن سهلة ولا متيسرة، بل إنها مثل أي عمل استكشافي لا بد أن يعيش أصحابها حالات من المد والجزر، ومن الصدفة والغرابة، ومن الخطر والهدوء، ومن الروعة والترويع.

يصف لنا لينش في مقطع من رحلته، وصول الحجاج من القدس إلى نهر الأردن في منطقة وادي النويعمة، حيث يغطسون هناك، ويستطرد في استعراض هذا الوصول المقدس، وكيف جاء الحجيج وغطس ثم غادر بسرعة تاركا الرحالة وفريقه في هذه المنطقة المقفرة.

يكتب: عند العصر وصلنا إلى الموضع الذي نصبت فيه الخيام على حافة النهر، وهو الموضع الذي عرفنا أن الحجاج القادمين من القدس سوف ينزلون منه يوم غد لكي يغطسوا في ماء النهر. واعترض الملازم ديل على نصب الخيام هناك، ولكن رفاقنا العرب أكدوا له أن الحجاج لن يصلوا إلا بعد رحيلنا. ولكننا أفقنا أثناء النوم مذعورين. وبعد قليل تبين لنا أن رفاقنا أطلقوا النار باتجاه فلاح كان يريد عبور مخاضة الماء. وعلمنا من عقيلة أننا هذا اليوم مررنا من منطقة بني عدوان (قبيلة العدوان) وبني صخر، وأننا دخلنا في أراضي القبائل الرحل في الغور الأدنى.

وأفقنا في فجر يوم 18 نيسان بعد أن وصلتنا أنباء بأن الحجاج أخذوا يقتربون باتجاهنا.. ونهضنا مسرعين فشاهدنا آلاف المشاعل ترتفع فوق رؤوس كتلة متراصة من الناس يزحفون بسرعة فوق التلال. وبادرنا إلى إنزال خيامنا وإلى نقلها ونقل أمتعتنا مسافة قصيرة إلى اليسار. ولم نكد ننتهي من ذلك حتى شاهدنا الحجاج يندفعون نحو الضفة: رجالا ونساء وأطفالا، وهم على ظهور الخيول والجمال والبغال والحمير. في هذا الوضع وقف أصدقاؤنا البدو وقفة ثابتة إلى جانبنا، إذ غرزوا رماحهم المزدانة بريش النعام أمام خيامنا وامتطوا ظهور جيادهم وألفوا حاجزا عسكريا حولنا.
والحقيقة أنه لولاهم لاقتحمنا الحجاج بأقدامهم وحيواناتهم ولفقدنا معظم ما معنا من أمتعة. كان غريبا أن تعمل جماعة من أبناء الصحراء المسلمين على حمايتنا من حشد من المسيحيين. حقاً إنه لم ينقذنا إلا رماح البدو ذوي الوجوه السمراء.

ثم تبين أن الجماعة التي داهمتنا لم تكن إلا طليعة المجموعة الكبيرة للحجاج، وهي المجموعة التي أقبلت في الساعة الخامسة صباحا من فوق قمة الربوة، ترافقها جلبة عظيمة. ذلك أن هؤلاء الناس لم يكونوا من بلاد واحدة، بل كانوا خليطا من الأقباط والروس والبولنديين والأرمن واليونان والسوريين: جاءوا من مختلف أرجاء آسيا وأوروبا وأفريقيا بل من أميركا البعيدة: رجالا ونساء وأطفالا من كل سن ولون، في ألبسة من كل زي وطراز لا يمكن أن يخطر على البال، يزعقون ويصرخون بكل لغة من لغات العالم. وعندما وصل هؤلاء إلى حافة النهر اندفع كل واحد إلى الماء، أو وجد من يقوم بتغطيسه، ثم ملأ زجاجة أو وعاء من ماء النهر، وبعد أن تم ذلك أخذ كل واحد منهم يقتطع لنفسه غصنا من أغصان الشجر ويغمسه في الماء ليحمله تذكارا لهذه الزيارة.

ولم تمض ساعات، حتى أخذوا يعودون أدراجهم، وبعد ثلاث ساعات لم تتبق على الضفة سوى آثار الأقدام، فبقينا وحدنا في هذه البرية. كان مجيئهم أشبه بالحلم، وقد قدر البعض عددهم بثمانية آلاف، أما أنا فأحسب أنهم كانوا أقل من هذا العدد".

المساهمون