قراءتان

قراءتان

22 فبراير 2019
(مشهد من "الغريب" في عملٍ لـ كيفن ديتز)
+ الخط -
منذ أن قرأتُ رواية "الغريب" لـ ألبير كامي، كان يشغلني العربي الذي قُتل على يد ميرسو بطل الرواية، وذلك لأنه عربي قُتل في بلاده من قبل فرنسي محتلّ أوّلاً، ثم لأن القتل المجّاني لم يكن مفهوماً أو مسوغاً على أي صعيد فني أو واقعي. ولم أستطع تقبُّل فكرة الالتباسات الوجودية في التعريف به في النقد بوجه عام.

وكان كامي يُقرأ في صفوف المعجبين بأدبه في العالم بوصفه وجودياً، وهناك من أشاد بمواقفه المناهضة والمقاومة للاحتلال النازي لفرنسا، بينما أُدين أدبه غالباً من قبل اليسار بوصفه كاتباً يؤمن بأن وجودنا كلّه عبثي.

ولقد سارت الثقافة العربية على النهج ذاته، فإمّا أنها كانت تحتفي بكامي انطلاقاً من تبنّي أفكار الوجودية، أو تدين أفكاره بسبب دعواته العبثية في زمن كانت معظم الدول العربية تشرف على المستقبل، وكان معظم المثقّفين العرب يحملون مشاعل التقدُّم. ولكن منذ أن تُرجمت "الغريب"، لم يتطرّق أي ناقد عربي، على حد علمي، إلى المناخ العنصري الذي يتجلّى بوضوح شديد في الرواية. لقد عومل العربي المقتول من قبل النقد العربي، كما عامله ميرسو بطل الرواية، على أنه مجرّد أداة توضيحية لمشاعر وأفكار الكاتب وبطله في الرواية، بحيث يبدو قتله تأكيداً على اعتباره لا أحد. وفي هذا المجال، تم تفضيل الكاتب والرواية على الشخصية الروائية.

غير أن إدوارد سعيد سوف يقدّم قراءة مختلفة عن القراءات السائدة في كتابه "الثقافة والإمبريالية"؛ حيث يمكن القول إنه أعاد للقتيل العربي العدالة المفقودة. فإذا كانت المحكمة التي عُقدت لمحاكمة ميرسو في الرواية شكلية، فقد أنشأ سعيد محكمة بديلة صارمة تضع قوانين مختلفة للبحث عن العدالة، لا للجزائري القتيل وحده، بل لكل أولئك الذين كانوا ضحية ثقافة لم تستطع أن تكون متوازنة في قضية العدالة.

ويمكن النظر إلى كتاب إدوارد سعيد على أنه حد فاصل بين عهدين من عهود القراءة بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، وقبل الكتاب ليس كما بعده، في تحليل عدد كبير من الروايات الفرنسية والإنكليزية، وخاصة في الجانب الثقافي.

ولعل أهم ما قدّمه المفكّر الفلسطيني على الصعيد المنهجي هو إمكانية قراءة الرواية قراءة ثقافية تتفحّص البطانة الداخلية للكاتب، من خلال تحليل مواقف شخصياته. وميزة هذا المنهج قائمة على أساس أن تلك الروايات نتاج عظيم للخيال الخلّاق لمؤلّفيها، ومن بينهم كامي طبعاً، من جهة، وعلى أنها جزء من العلاقة بين الثقافة والإمبريالية، من جهة ثانية.

ولدى إدوارد سعيد كافة المعطيات البحثية والنصوص الدالّة على تحيُّز كامي وتأييده الاستعمار الفرنسي للجزائر، بل إنه يقدّم لنا أمثلة تضع الكاتب في مصاف أكثر الفرنسيّين حماسة للبقاء في الجزائر.

من بين ما يمكن، بل يوجب، الاستفادة من منهج إدوارد سعيد هو إظهاره التناقض المريب بين مواقف كثير من الكتّاب المدافعين عن الحق والعدالة والحرية في بلادهم، والساكتين عن انتهاكها في أمكنة أخرى من العالم، وهو ما نشهده بكثرة في عالمنا اليوم.

دلالات

المساهمون