أسماء البلدان أفعالاً سلبية

أسماء البلدان أفعالاً سلبية

20 فبراير 2019
(تفصيل من عمل للفنانة سبيدة أشرفي)
+ الخط -

شاعت في اللسان العربي المعاصر ظاهرةٌ توليدية طريفة، تتمثّل في اشتقاق أفعالٍ ومصادرَ، جُلها رباعيٌّ، من أسماء البلدان، أكانت أجنبيةً أم عربيةً. والأمثلة على ذلك عديدة أشهرها "لَبننة" الدالة على وقوع بلدٍ ما في قبضة التدخّلات الخارجية والإقليمية. وبهذا المعنى، استعملها الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، محذّراً من التلاعب بالانتخابات (المقبلة حينها) مما أسماه: "لَبننة تونس".

وهناك مصطلح "صَوْمَلة" في إشارة إلى خطر عودة بلد إلى مرحلة ما قبل الدولة كما حدث في الصومال في التسعينيات، أو "أفغنة" بمعنى اكتساح الجماعات المتشدّدة للفضاء العام. ويظلّ المثال الأبرز هو مصطلح "البَلقَنَة" الذي ظَهر في الأصل في الأدبيات السياسية في الغرب للإشارة إلى مسار التقسيم والتشظّي الذي قد تشهده منطقة ما أو دولة إلى عدّة أطراف متعادية. وقد انحدر هذا المصدر من اسم منطقة "البلقان" واستُعمل، للمرة الأولى، بُعيْد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) على لسان رجل السياسة الألماني والثر راثنوا (1867 - 1922).

على صعيد آخر، قد تُستعمَل آلية التوليد هذه في إطار داخلي، كما هو الحال مع تعبير "توْنسة" الذي يدلّ على تأميم مؤسّسات أو قطاعات أو ثروات وإخراجها من سلطة الاستعمار، والذي استُعمل له مصطلح "الفرنسة"، وإن قلّ ظهور الثانية في الاستعمال الرسمي. ومن اللافت هنا، أن مفردة "تَوْنسة"، بما هي مهيّأة بالأساس للاستعمال الداخلي، تحمل بُعداً إيجابياً، فيما يظل التصاق السلبي بكل ما هو أجنبي في مثل هذه المستحدثات كما هو الحال مع "فرنسة".

وقد وصلت هذه الآلية الابتكارية إلى الاستخدام الفكري، ومن ذلك اعتمادها من المفكّر العربي مطاع صفدي (1929 - 2016) وهو يحلّل واقع العالم الجديد، فيصفه بـ"الأمْركة" بما هي بسط إمبريالي لنمط العيش الأميركي على بقية العالم.

كما ظهرت مؤخّراً كلمة "سَعودة" للإشارة إلى إقصاء الوافدين من العديد من الوظائف وإسنادها إلى أهل البلد. ولا ننسى استعمال مفردة "أسْرَلة"، لتوصيف سياسات تحاول طمس الهوية الفلسطينية بالقوة، الصلبة منها والناعمة، من قبل الاحتلال الصهيوني.

ترد جلُّ هذه الأفعال على صيغة فَعلَلَ الرباعية، وهي صيغة عريقة، إلى الفصيح منتماها. وهو ما يفسّر أصالة ظاهرة اشتقاق الأفعال من أسماء البلدان، وإنْ بصيغٍ أخرى. ومن سوابق هذا الاستعمال اللغوي فعل تبَغدد أي تَصرّف مثل أهل بغداد ظرفاً ورقّةً، ومنها أشْأم وأعْرَق بمعنى ارتحل أحدهم إلى أرض الشام والعراق.

على المستوى الدلالي، أبرز ما يمكن ملاحظته هو ارتباط الجانب الإيحائي، في الغالب، بالجوانب السلبية التي تتعلّق بالبلدان المحال عليها، والتي يحملها المخيال العام عنها. ومن جانب آخر، يمكن أن نلاحظ أنَّ هذه التوليدات سرعان ما تنتشر في الخطاب العام، وربما يعود ذلك إلى سهولة فهم المقصود منها دون شرح أو تعريف بالمصطلح الجديد. ولا يخفى هنا أن الغرض الأصلي من هذا التوليد تواصلي في الأساس، إذ يهدف إلى التحذير من وضعية خطرة أو الإدانة أو التشويه والتحقير وما إلى ذلك من أفعال القول الإنجازية التي يتداولها الساسة في صراعاتهم وحَملاتهم.

كما تكشف هذه الظاهرة أبعاداً ثقافية، فهي تُعرّي فهم الثقافات لبعضها، وتكشف النظرة التي تبطنها كلُّ واحدة عن الأخرى. وبما أنَّ أسماء البلدان هي أعلامٌ وليس لاسم العَلم، إذا تَمَحَّض للعلمية، من دَلالة معجمية، بل يفقدها مباشرة ويقطع مع وضعه كمفردة إذا كان من أصل عربيٍ (فكلمة مصر مثلاً لا تدل على "منطقة مُمَصّرة"، وإنما على البَلد المعروف).

أمّا إذا كان من أصلٍ أعجمي فغياب الدلالة المعجمية أوضح؛ فاسم "تونس" لا معنى له في اللسان العربي لأنه من أصل روماني. ولذلك فإنَّ هذا الاشتقاق ينبني على صورةٍ بيانية ويصير إلى الدلالة على لوازمه وما يحف به من المعاني الثواني. فحين تطلق كلمة "أفغنة"، لا تنصرف فقط إلى تحويل بلدٍ ما إلى أفغانستان، وإنما إلى الإشارة إلى ما وَقر في المخيال الشعبي والجمعي عن صورة هذا البلد.

وهكذا تصبح هذه الاشتقاقات قضية ثقافية سياسية بالدرجة الأولى والأخيرة، وثيقة الصلة بما تحمله الشعوب من الصور والتمثّلات عن الشعوب الأخرى وهي تمثّلات تصنعها الذاكرة والإعلام ويغذّيها الخطاب السياسي المُتلاعب بتضخيمها أو بإخفائها.

المساهمون