السخرية في قفص الاتهام

السخرية في قفص الاتهام

12 فبراير 2019
خالد تكريتي/ سورية
+ الخط -

هل للبشر الحق في ألا يتعرّضوا للسخرية بسبب معتقداتهم، أو آرائهم وأعراقهم وانتماءاتهم، وأسلوب حياتهم؟ في الواقع، البشر مطبوعون على السخرية، وفيما لو طالبنا بحظرها، لأصبحنا مجالاً مفتوحاً للسخرية، وربما من المستحسن اعتماد الاحتجاج ضدها، مع العلم أن ردود الفعل عليها تختلف، ترتفع حدّته لدى البشر الحساسين الذين يتأذون من أصغر الأمور، ومعهم المُوَسوسون ملاحقو التوافه، الذين يختلقون منها عظائم الأمور، بينما تنخفض لدى البشر البليدين، كذلك اللامبالين الذين لا يهتمون بها، أما الجدّيون فلا يلتفتون إليها، تشغلهم الأمور المصيرية، وبعضهم يعتقدون جازمين أنها تدل على انحطاط أصحابها... مع هذا من الذي لا يتأذى من السخرية؟

لا تخفي السخرية ما يكمن فيها من حقائق، مهما كانت الانتقادات بريئة. ففي التنافس الفرنسي الإنكليزي، لم تستبعد السخرية المرّة في تبادل الانتقادات بينهما، مع استعانة كل منهما بالتاريخ والجغرافيا والتفوّق الفكري، ما شكّل تاريخاً من الاستياء المتبادل. كذلك في العقود الماضية، تركزت اتهامات أوروبا الغربية لأوروبا الشرقية على قصر النظر من ضعف إيمانهم بالحرية، ما أدى إلى التحاقهم بالبلشفيك الروس، كما لا تُترك مناسبة دونما تذكير الألمان بجميع الوسائل، بما أصابهم من غيبوبة انساقوا فيها إلى ارتكاب أقبح الجرائم في العهد النازي. طبعاً دونما استثناء اليابانيين والصينيين.

وعلى المنوال نفسه وأكثر، يسخر الغرب من تأخّر العرب و"تزمّت دينهم"، وما يقوده إليهم تطرفهم وربما حجابهم وبرقعهم إلى الإرهاب، كما لم يستفيدوا من عائدات نفطهم وثرواتهم المادية، وتفريطهم بثروتهم العقلية، والاستهانة بشعوبهم.

في الحقيقة، السخرية نطاقها واسع، تذهب إلى العبث البريء وغير البريء، والعمل على تضييقها أجدى، وقد يكون أنفع، لئلا تشطّ وتخطئ هدفها. فالسخرية أحياناً تبلغ من التعالي والسوداوية والمرارة، ما يهدّد بإثارة نزاعات ورغبة في الثأر. فهي ليست للإضحاك، ولا لشفاء الغليل، أو توخياً للطرافة فقط، بقدر ما تجمع بينها جميعاً، كما تبدو أحياناً، ولا تنجو من الأحقاد.

حتى على مستوى الأدب والفنون، كانت من العناصر المستحبّة في أدب المقالة والمسرح والرواية والسينما، وفي الوقت نفسه مسؤولية لا يستهان بها، إزاء جمهور قد تجرح مشاعره، ولها عواقبها، بالتالي ليست مجانية ولا عشوائية، تبطن من الحقيقة ما لا تتحمله حكومة حتى الديمقراطية منها، وقد تقلب حكومات.

ترى هل يمكن التسامح بشأنها، رغم أنها مغرضة؟
ما يشفع لها، أن السخرية ولو كانت سيئة السمعة، لا يمكن إنكار صوابية ما تحمله من انتقادات مؤلمة، رغم مخاطرها وعقابيلها القاسية، لكنها في محلّها، وبخصوصنا نحن العرب، قد نتعرّف إلى كيف يرانا الآخر، لا كيف نرى أنفسنا، فنقنع بأحوالنا.

في الدفاع عنها، يمكن وضع البشر جميعهم في موضع الاتهام، وبأنهم لم يُحسنوا التصرّف ولا العيش ولا السلام، بقدر ما أتقنوا الصراعات والحروب، فلم يعد هناك من متهم رئيسي يتحمل هذه الآثام سوى الطبيعة البشرية، وهي سخرية لا تخلو من مغالاة وتجاهل للإرادة الإنسانية.

المساهمون