جان دي تيفينو..مشاهدات في الأناضول والعراق والخليج العربي

جان دي تيفينو..مشاهدات في الأناضول والعراق والخليج العربي

07 ديسمبر 2019
حدائق بابل، 1754(Getty)
+ الخط -

ما بين 1663 و1667، سيقوم الرحالة الفرنسي جان دي تيفينو برحلة كبرى إلى عالم الشرق القديم، وسيدوّن تلك الرحلة في كتاب، نقله إلى العربية وعلق عليه الدكتور أنيس عبد الخالق محمود، وصدر بعنوان "جان دي تيفينو، في الأناضول والعراق والخليج العربي".

ورحلة الفرنسي هذا، تعتبر من بين أقدم الرحلات إلى هذه المنطقة الشاسعة، التي لطالما أثارت الأوروبيين، وجعلتهم يتطلعون إليها، كمنطقة تجارة جديدة، تعوضهم عن التنافس المحموم على أميركا اللاتينية.

وقد كان للفرنسيين والإنكليز والهولنديين قصب السبق في إرسال أولى البعثات الاستطلاعية إلى هذه البلدان، تحت مسميات مختلفة، وبعض تلك الرحلات، أو ربما أغلبها كان بدعم مباشر أو غير مباشر من الملكيات الحاكمة، التي كان يهمها تصريف الاحتقانات الداخلية والأطماع التي تتهددها من طرف خصومها المحليين وتصديرها إلى الخارج، ولفت انتباههم إلى الجنات الموعودة في هذا العالم الذي ما تزال فيه التجارة عذراء.

لا تخرج رحلة جان دي تيفينو عن هذا الإطار، وهي زيادة على كونها وثيقة مهمة في فهم الحياة في تلك المرحلة، فإنها تعكس من جانب آخر، نظرة الغربي إلى كل ما هو "آخر"، حيث كان هذا الآخر لا يخرج عن دائرة "التركي"، كيفما كانت الأصول تركية أم عربية أم فارسية. وبالتالي، كانت مخيلة هؤلاء الرحالة ضاجة بالمسبقات، من قبيل أن هذا الآخر العربي، هو قمة في الخداع والمراوغة والمناورة، وإن وجد الفرصة للإجهاز عليك وسلبك متاعك وروحك، لما تورع عن ذلك، دون أي وازع أخلاقي أو خفقة ضمير.

يكتب مترجم الكتاب، متحدثا عن أهمية رحلة دي تيفينو "تعدُّ رحلة جان دي تيفينو، المعنونة رحلة إلى الشرق (1663-1667)، من أهم الرحلات الفرنسية إبان النصف الثاني من القرن السابع عشر· وقد دفعتنا الحقائق التاريخية المهمة والمعلومات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية القيّمة والنوادر المتنوعة فيها إلى ترجمة الجزء الخاص بالأناضول والعراق والخليج العربي.

وكان الهدف الحقيقي لهذه الرحلة المثيـرة، التي قضى الرحّالةُ خلالها نحبهُ سنة (1667) في تبريز، حبه للسفر، ولم تكن لها أبعاد سياسية أو اقتصادية أو تبشيرية كبقية الرحلات التي اتسمت بها الحقبة التي بدأت فيها حركة التبشير الأوروبية تسيطر على عقول الرحّالة المبشرين الأوروبيين التابعين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والتي انعكست بشكل واضح على سلوك صاحب الرحلة وعقليته".

ويضيف "لا بد من الإشارة إلى أن الرحّالة كان لغويًا موهوبًا، فهو يتقن ثلاث لغات شرقية: التركية والعربية والفارسية، فضلاً عن أنه بارعٌ في العلوم الطبيعية وعلم النبات، لاسيما بعد أن جمع عيّنات مختلفة من النباتات في أثناء زيارته للهند·
فضلاً عن أنه يتّسم بشخصية حاذقة، فقد عُرف عنه دقة الملاحظة والمثابرة، فحظيت مؤلفاته ـ وهي كتاب رحلته متعدد الأجزاء ـ بالإعجاب والتقدير".

وهذه ليست الرحلة الأولى لتيفينو إلى الشرق، إذ سبق له أن قام برحلة سابقة في عام 1638، لكنها لم تكن في حقيقتها إلا رحلة تمهيدية، للرحلة الكبرى التي ستليها.

يتحدث المترجم أنيس عبدالرحمان محمود عن مسار الرحلة الثانية لدي تيفينو، ويؤكد أنه "أبحر في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة (1663) من فرنسا مجددًا، بعد أن أمضى فيها أربع سنوات، فوصل الإسكندرونة ثم صيدا، ومنها واصل رحلته برًا، في سنة (1664)، إلى كل من دمشق وحلب·
ومنها توجه إلى الموصل عن طريق بيرة جك، فسلك طريق قوج حصار، ماردين، نصيبين، ثمّ الموصل، ومنها استخدم الكلك للوصول إلى بغداد التي توجه منها إلى مندلي، وهي آخر موقع للعثمانيين الأتراك على حدود بلاد فارس. ومن هذا الجزء ترجمنا مسار الرحلة بدءًا من حلب وانتهاءً بمندلي عند الحدود الفارسية، وتشمل الترجمة ستة فصول من الكتاب الأصلي: التاسع، العاشر، الحـادي عشـر، الثانـي عشر، الثالث عشر والرابع عشر من الجزء الأول من المجلد الثالث من كتاب رحلاته الذي سنفصّل الحديث عنه في الصفحات اللاحقة".

كتب دي تيفينو رحلته على شكل يوميات مؤرخة، يسرد فيها تفاصيل رحلته، وربما يعد هذا الشكل المبتدع والمنظم في كتابة الرحلة، أحد أهم الأشكال قوة في القبض على جميع جزئيات الرحلة، وبالتالي، إضافة إلى سلاسة أسلوبه، فقد دعمه بجانب منهجي يمنح طابع الإثارة والانسيابية لهذه السرديات المشوّقة، الضاجة بالأحداث المدهشة، والتي تشعر من خلالها، أن الرحالة يتعمد بث أفكاره وتصوراته، وتضمين ملاحظاته وأحكامه حول الأشخاص والأماكن والأحداث وقافلة رحلته، التي لا شك كانت كبيرة، وتضم العديد من الأشخاص من ذوي الطموحات والأهداف المتباينة والمتضاربة.

يكتب مثلا "بعد إقامة استمرت شهرين في حلب، ودعتُ قافلتين متجهتين إلى أرضروم؛ فقد يضطر المرء أن ينتظر أحيانًا مدةً في أرضروم لكي يعثر على قافلة متجهة إلى أريفان، ومن أريفان إلى تبريز؛ وفي تلك الأنحاء لا توجد أي حماية للفرنجة، إلى جانب انتشار أعداد كبيرة من اللصوص على ذلك الطريق· وأخيرًا، وجدنا قافلةً مستعدةً للذهاب إلى الموصل، فقررتُ أن أذهب معها، بعكس نصيحة جميع الفرنجة، الذين نصحوني بالبقاء حتى ينتهي الحر".


من حلب إلى الموصل وبغداد

يقول "اتفقتُ مع تركي كان قد استأجر بضعة بِغال، فأعطيته ثلاثين قرشًا لنقلي أنا وخادمي وأمتعتي إلى الموصل عبر الطريق البرّي، ومن الموصل إلى بغداد عبر الكلك، وتخليصي من جميع الضرائب· وبعد بضعة أيام طلب ثلاثة قروش أخرى، وشال بأربعة قروش· فسلّمته المبلغ كاملاً مقدَّمًا، كما أراد، مع أني أعتقد أن تلك الطريقة ليست صحيحة، وإنما لكي لا أرد صديقًا لم أرَ منه إلا الكثير من اللطف والأدب، صديقاً عقد الصفقة لأجلي· ولأنه لم يسافر في تلك الرحلة، وكان يظنَّ أن الجميع صادقون مثله، فقد أقنع نفسه بأنه فعل كل ما بوسعه لأجلي· وفي الوقت ذاته فإن الطريقة الوحيدة هي الاتفاق مع أصحاب البِغال وعدم دفع المبلغ لهم مقدَّمًا· فلو فعلتُ ذلك لما تحمّلت مبالغ كبيرة جدًا".


ستة قروش للبغل

"إن ذلك التركي لم يدفع إلى صاحب البغل سوى خمسة عشر قرشًا عن حمولة البغلين ونصف حمولة على بغل آخر، بينما لم تدفع بقية القافلة بأجمعها أكثر من ستة قروش للبغل الواحد· إلى جانب ذلك، فقد أبلغني ذلك الكافر عدة مرات في أثناء الطريق أنه لن يوافق على أن يتحمل أية تكاليف أو ضرائب عن أمتعتي. ولأني لم أعرف كم قرشًا إضافيًا سأدفع، اضطررتُ أخيرًا لدفع تكاليف جديدة من الموصل إلى بغداد".

لصوص في الطريق

جميع الرحالة الأوروبيين، يتوقفون عند ظاهرة اللصوصية التي كانت تتهدد رحلاتهم، بل هناك من قضى في مواجهات مع قطاع طرق، سواء في مصر أو في الشام أو في الحجاز أو في العراق. لقد كان ضروريا تشغيل أدلاء وعملاء طريق والدفع بسخاء للقبائل التي تحرس الطرق، وهذا يسلط الضوء على حالة الفوضى العارمة التي كان يعيش فيها الشرق العربي والشرق الأقصى.

يكتب "الأحد، 29 حزيران/ يونيو 1664: غادرتُ حلب يوم الأحد، التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو، برفقة عدد من التجار الفرنسيين على ظهر الخيول، الذين شرّفوني بحملي معهم ليروني للقافلة، التي كانت في الميدان المجاور للحدائق القريبة من المدينة· وحينما وصلتُ إلى أمام بوابة باب البرقوصة، أخبرني خادمي، الذي ذهب إلى هناك قبل يومين ناقلاً بضائعي، أن أحد مسدساتي قد سُرق ليلة أمس، وأن بعض حاجيات الآخرين سُرقت، وإن عليَّ أن أكون راضيًا لأن الآخرين بالحال نفسه، وأنهم أخبروني أنهم شاهدوا اللصوص ولاحقوهم، لكنهم لم يظفروا بهم·

فهؤلاء اللصوص يتسللون ببراعة على بطونهم كالأفاعي. ولذلك، فطوال تلك الرحلة لا تراهم يستقرون في خيام ليلاً، بل على العكس يرفعونها، لأنهم حينذاك (كما يقولون) يعملون كعيون للصوص".


يوميات مؤرخة

الثلاثاء، 1 تموز/ يوليو: غادرنا ذلك المكان في فجر يوم الثلاثاء· وفي نحو الساعة التاسعة التقينا قافلةً كبيرةً قادمةً من الموصل كان فيها ساعاتيٌ كان قادمًا من بلاد فارس، حيث يعيش منذ مدة طويلة مع زوجته وأولاده· وبعد أن تحدثنا معًا افترقنا· وكانت تلك القافلة متوجهة إلى سمّايا· وفي نحو الساعة العاشرة صباحًا توقفت قافلتنا في حقل يسمى چيتانلي، يمرُّ بالقرب منه غديرٌ صغيرٌ بين الأشجار· ومن حلب إلى ذلك المكان كان مسارنا شرقيًا وشماليًا شرقيًا دائمًا، ومن هناك إلى ألبير، كان مسارنا شرقيًا.


الصفحات

الأربعاء، 2 تموز/ يوليو: غادرنا مع بزوغ فجر اليوم التالي من چيتانلي. وفي نحو الساعة العاشرة صباحًا وصلنا قريةً كبيرةً تدعى مزار، فخيّمنا بالقرب منها·

وفي هذا المكان تنتشر الكثير من الغابات، وتحيطه المياه التي تجعله سارّاً للناظرين·ويمكنك هنا أن ترى الشلالات الجميلة التي ورد ذكرها في القصص التسع أو العشر التي قيلت عن الطريقة التي تعمل بها المطاحن المائية· وبدأنا نشعر حينذاك أن الجو حار جدًا ليلاً ونهارًا.

الخميس، 3 تموز/ يوليو: طوينا خيامنا وغادرنا في نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل· ومع بزوغ الفجر مررنا بين أراضٍ مزروعة بالكثير من أشجار التين بصفوف مستقيمة· وفي نحو الساعة السابعة مررنا بين رابيتين، شاهدنا على اليمنى منهما مبنىً يشبه الهرم·

وبعد نصف ساعة وصلنا إلى ضفاف نهر الفرات، الذي لا يبدو أكبر من نهر السين، ولكنهم يقولون إنه واسعٌ جدًا في فصل الشتاء·

والحقيقة أن قعره يعادل عرضه بمرّتين· وهذا النهر يُدعى فرات ومراد صو، أي ماء الرغبة، لأن خليفة بغداد (كما يقولون)، بعد أن أرسل بطلب كمية قليلة من جميع مياه البلد، وبعد أن تذوّقها، وجد أن مياه نهر الفرات أكثرها استساغة.


قوارب دجلة والفرات

يجري هذا النهر ببطء شديد، وهو صالحٌ لملاحة القوارب الصغيرة إلى نقطة التقائه بنهر دجلة. ولكن القوارب الكبيرة فقط تذهب من ألبير إلى الرضوانية، وهي قريةٌ تبعد عن ألبير نحو عشرة أيام، يتمُّ فيها تفريغ البضائع، ليتمّ تحميلها على جِمال إلى بغداد، التي لا تبعد سوى بضعة أيام عنها، حيث تنقل عبر مياه نهر دجلة· وهكذا تذهب القوارب المحمّلة بالزجاجيات (التي سأتحدث عنها قريبًا) إلى البصرة·

ولأن هذا النهر غير صالح للملاحة، كما يعتقد البعض، فحينما كنتُ في حلب، استأجر الشيخ بندر قاربًا لنقل خمسمئة أو ستمئة صندوق من الزجاجيات عبر نهر الفرات إلى الرضوانية ليتم إرسالها إلى الهند·

والسبب في عدم ذهاب القوارب أبعد من الرضوانية هو وجود بعض الصخور في النهر التي تعيق مرورها، ولكن القوارب الأصغر تستطيع تفاديها· ومع ذلك، كان عليّ أن أنتهز تلك الفرصة للذهاب إلى بغداد، ولم أكن أعلم أن تلك القوارب تتوقف لبضعة أيام في بعض الأماكن التي يكون فيها الإبحار أفضل، وأنها تبحر ببطء شديد، إلى جانب أنني لا أستطيع أن أتحرك أقل حركة من القارب دون أن أتعرض للسرقة من العرب، كما لا أستطيع تفادي الحر على ظهره، لعدم وجود ظهر على تلك القوارب·

واستغربت لرؤية أن مَن رزموا صناديق الشيخ بندر كدّسوها بطريقة فظّة جدًا، فكسّروا جميع الزجاجيات· ولكنهم أخبروني أن هذا لا يهم، مع أنها تحولت كلها إلى أشلاء، لأن الهنود، رجالاً ونساءً، لا يشترونها إلا للحصول على قطع صغيرة لصنع الخواتم، أو لصنع المرايا التي يشاهدون بها أنفسهم· وذلك الزجاج مطليٌ بالزئبق من جهة واحدة، وهو سلعةٌ رائجةٌ في الهند، ومربحةٌ للتجار.

عبرنا نهر الفرات بقوارب كبيرة، فيها دفّة تبعد نحو ثلاثة أقدام عن مؤخرة القارب (كما يذكر پيترو ديللا فاليه). ولا أرى أي داع لتلك الدِفاف سوى التوفير في التكلفة، لأن تكلفة تلك القوارب أقل من تكلفة صنع قوارب كقواربنا، لأن دفّتها ليست سوى ألواح عريضة مسمَّرة متقاطعة إلى نهاية أطرافها، وتثبيتها لا ينفع بشيء كما في قواربنا.

وصلنا إلى شاطئ عند ألبير، وهي مدينة صغيرة تقع في بلاد ما بين النهرين، على جهة النهر، تطلُّ بيوتها على حافة النهر، وتمتد حتى قمة جبل. وقلعتها جميلة جدًا، وتقع على مرتفع أيضًا.

وتحيط الأسوارُ هذه المدينة من جميع الجهات، وهي كالبيوت مبنيةٌ من حجارة مربعة صغيرة تمَّ جلبها من جبل مجاور مكوَّن من صخور ناعمة، ولكن ليس بداخلها سوى خرائب.

توقفنا على قمة الجبل خارج المدينة، التي وصلناها عند الساعة الثامنة والنصف· وحالما دفعنا الكمرك عن جميع بضائع التجار الكثيرة جدًا، عبرنا النهر.

وتقع مقبرة ألبير على الجانب الآخر من النهر، في سوريا. ويقولون إن سبب ذلك أن مخلِّصنا، حينما وصل إلى حدود الفرات، أعطى لرجل منديلاً عليه صورته، ليستطيع أن يمضي ويهدي أهل بلاد الرافدين مباشرةً·

ولكن الفضول دفع الرجل لرؤية حقيقة المنديل، وبعد أن فتح المنديل، بعكس أوامر سيدنا، طار إلى بئر. وحينما علم سيدنا بذلك قال إن تلك الأرض لا تصلح لشيء، فلم يذهب إلى أبعد منها· ولذا تراهم لا يدفنون موتاهم هناك· ويعرض آخرون هذه القصة بطريقة أخرى، سأرويها حينما سيأتي الحديث عن أورفا.

المساهمون