بيركهارت.. رحالة سويسري في الجولان عام 1810

بيركهارت.. رحالة سويسري في الجولان عام 1810

14 ديسمبر 2019
مدينة حلب عام 1895(Getty)
+ الخط -

لم يتهيأ لرابطة فلسطين القيام بأي نشاط يذكر، إلى أن التقى البروفيسور إدوارد دانيال كلارك بشاب سويسري يدعى جون لويس بيركهارت أتى إلى جامعة كامبردج لدراسة اللغة العربية استعداداً لرحلة استكشاف في القارة السمراء لصالح "الرابطة الأفريقية".

وقد أغرى كلارك، الذي سبق له أن قام بأول رحلة استكشافية بريطانية قبل سنوات قليلة إلى فلسطين، المغامر الشاب بالذهاب أولاً إلى سورية ودراسة اللغة العربية فيها، ثم التوجه في ما بعد إلى الجزيرة العربية ومصر ومن هناك الانطلاق نحو تيمبوكتو في النيجر والتي لن يسعفه الزمن بالوصول إليها مطلقاً.

ولد جون لويس بيركهارت، أو يوهان لودفيغ بروكهاردت، في لوزان السويسرية عام 1784 لعائلة عريقة تجري في عروقها الدماء الألمانية، كانت تعاني من اضطهاد الجمهوريين الفرنسيين، وسيطرت عليه وهو صغير قناعة راسخة بأن يعمل في خدمة الدول المعادية لفرنسا، وكانت إنكلترا هي الهدف المناسب لتحقيق مآربه، فهي القوة الوحيدة في ذلك الوقت القادرة على منافسة نابليون ونزعاته التوسعية. تعلم الطفل على يد معلم خاص في مدينة بازل حيث انتقلت العائلة منذ وقت، ثم انتقل إلى جامعة لايبزغ في ألمانيا ثم جامعة غوتنغن التي تخرج منها عام 1805.

وفي عام 1806 حمل بيركهارت توصية من البروفيسور بلومينباخ، الذي سبق أن شجع سيتزن كما أشرنا، إلى رئيس "الجمعية الأفريقية" الإنكليزية جوزيف بانكس. وقد رحب رئيس الجمعية بالشاب السويسري، ووافق على انتسابه إليها عام 1808، ومنذ ذلك التاريخ بدأ بروكهاردت يعد نفسه للمهمة التي سيكلف بها، فتعلم العربية في كامبردج ثم تابع دورة مكثفة اطلع فيها على مبادئ علم المعادن والكيمياء والفلك والطب والجراحة، كما أخذ يتدرب على تحمل المشاق التي سيقابلها في رحلاته حتى يتأقلم مع الظروف المستجدة.

وفي آذار (مارس) عام 1809 غادر بروكهاردت إنكلترا متجهاً إلى جزيرة مالطة، التي مكث فيها زهاء سبعة أسابيع ليتعلم ما يتيسر له من العربية، وليجيد التنكر كتاجر مسلم هندي يريد زيارة سورية. وفي إنطاكية تعرض لاختبار خطير، إذ طلب منه البعض أن يتكلم اللغة الهندية فبدأ يتكلم بلغة ألمانية مكسرة ونجا من الورطة.

ووصل بيركهارت إلى حلب واتخذ لنفسه اسم الشيخ إبراهيم بن عبد الله، التاجر المسلم، والرحالة الهندي الذي يحمل رسائل توصية من شركة الهند الشرقية للقنصل البريطاني في حلب. وعكف الشيخ إبراهيم على دراسة اللغة العربية حتى أتقنها، ودرس القرآن حتى صار يشرح للبعض ما عسر عليهم من آيات الذكر الحكيم.


بانياس وقلعة الصبيبة

قام بيركهارت في عام 1810 برحلات طويلة في بلاد الشام، زار فيها تدمر وبعلبك ودمشق
وجبال لبنان الغربية والشرقية ، ومر على منطقة بانياس والحولة في شمال الجولان، وقد وصل إلى بانياس في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1810 قادماً من راشيا الفخار، ونزل في مضافة القرية بعدما تعرض خلال أربع ساعات من المسير المنحدر لوابل ثقيل من الأمطار. وقد أرسل شيخ القرية له عشاءه مجاناً دون مقابل. وهو عادة يفعل ذلك مع أي غريب يأتي إلى القرية، كما يقول.

ولكن بيركهارت يشير إلى أن ذلك لا يمنع من إعطاء إكرامية للخادم، الذي يجلب الطعام، أو للناطور الذي يحمي حقائب سفر الغرباء من السرقة.
ويؤكد بيركهارت أن بانياس هي نفسها قيصرية فيلبي القديمة التي يرد ذكرها في الكتب القديمة، ويشير إلى أن بحيرة الحولة هي بحيرة ساماخونيتيس.

وبما أنه لم يكن يملك مالاً كافياً، أو وقتاً لكي يضيعه بالتجول في المنطقة، استأجر بيركهارت في اليوم التالي لوصوله فلاحاً من بانياس لكي يرشده إلى القلعة المهدمة، [والمقصود بذلك قلعة الصبيبة المجاورة].

ويذكر أن القلعة تحتل قمة جبل وتبعد نحو ساعة عن قرية بانياس. ورغم أنها مخربة تماماً إلا أنها كانت في يوم من الأيام قلعة قوية جداً، كما يقول.

ويشير بيركهارت إلى أن عدد بيوت قرية بانياس والتي تتبع حاصبيا، يبلغ نحو مائة وخمسين بيتاً، مسكوناً في الغالب من قبل الأتراك [الفلاحين العرب]، ويذكر أيضاً وجود يونانيين [مسيحيين أرثوذكس] ودروز ونصيريين بين السكان.


سهرة رمضانية

ويؤكد بيركهارت أن يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) يصادف رمضان، ويقول إنه سهر تلك الليلة مع الآخرين تحت شجرة كبيرة قرب المضافة، وهم يدخنون ويتحدثون.

ويتطرق بيركهارت للدكتور سيتزن الذي سبقه إلى هذا المكان قبل خمس سنوات وانطلق من هنا باتجاه بحيرة طبريا والحدود الشرقية للبحر الميت، حيث كانت هذه المناطق الموضوع الرئيسي لرحلته. ويقول إن المسيحيين كانوا يعتقدون بأنه مبعوث من قبل الملك الأصفر (وهو اللقب الذي يطلقونه على الإمبراطور الروسي) لاستطلاع أحوال البلاد تحضيراً لغزوها، وتخليصهم من نير الأتراك. وعلى العكس من ذلك، اعتقد الأتراك [الفلاحون العرب المسلمون] بأنه، مثل كلّ الغرباء الذين يستفسرون عن الآثار، كان يبحث عن كنز.
في الجانب الجنوبي من قرية بانياس، يشير بيركهارت إلى وجود آثار لقلعة منيعة، يخمن من مظهرها ونمط عمارتها أنها بنيت في الفترة نفسها مع قلعة الصبيبة.

ويذكر أن للقلعة خندقا واسعا وحائطا ضمن الخندق، وأنها ما زالت تحتفظ بالعديد من أبراجها. ولها جسر فوق وادي كيد (!) الذي يسير فيه سيل شتوي، وهذا الجسر يؤدي إلى مدخل القلعة، الذي كتب عليه نقش عربي، لم يستطع أن يقرأه بشكل كامل بسبب عدم وجود سلّم، لكنه استطاع أن يرى كلمة ستماية و.. هجرية، وهو تاريخ يتزامن مع عهد الحملات الصليبية. ويشير إلى وجود خمسة أو ستة أعمدة من الصوان تكوّن جدران البوابة.


تل القاضي والحولة

يقول إنه توجه على مسافة ساعة باتجاه منبع الأردن في تل القاضي، وفي بداية طريقه شاهد جبلاً أعلى من جبل بسطرا قيل له إن اسمه جبل ميرورا جبّا (!). ووصل إلى قبة الأربعين في قرية الغجر، التي قال إن فيها بضع بيوت وضريح شيخ تركي (!).
ويؤكد بيركهارت أن الجزء الأكبر من سهل الحولة غير مفلوح، ويرعى به عرب الفضل والنعيم والتركمان ماشيتهم.

وسهل الحولة، كما يقول، غني بمصادر المياه، ففيه يمر نهر حاصبيا، والأردن، ونهر بانياس، إضافة إلى العديد من الوديان التي تنزل من عيون تنبجس من مرتفعات الجولان الشرقية.

في 15 تشرين الأول (أكتوبر) عاد دليل بيركهارت إلى مدينة زحلة. واضطر هو للعودة إلى دمشق بعدما أصيب بورم منعه من الركوب والمشي لمتابعة السير إلى بحيرة طبريا وزيارة شاطئها الشرقي.

ومع ذلك كان يشعر بالرضى عما أنجزه في هذا الجزء من الرحلة، لأنه كان سيضطر إلى المكوث يومين إضافيين للعلاج في إحدى القرى على الطريق لو أنه بقي يوماً آخر.
ورغم أنه يقر بعدم الحاجة إلى النقود للسفر في هذه البلاد، يقول إنه أعطى دليله آخر أربعة شلنات كانت معه.

ويختار بيركهارت الطريق الغربية، من بانياس إلى دمشق مفضلاً إياها على طريق القنيطرة [يسميها كونيتزا] وسعسع، والتي يتردد عليها الحجاج من دمشق وحلب إلى القدس. ويشير إلى أن هذه الطريق أقل أمناً لقافلة صغيرة، بسبب غزوات العرب البدو، الذين سمع أنهم سلبوا عدداً من الرجال أثناء وجوده في بانياس، على عكس الطريق الغربية الآمنة جداً بالنسبة للغرباء، والتي لم يضطر لحمل سلاح عندما سلكها قادماً من دمشق وبدون مرافق أيضاً.

وحالما أعلن عن نيته العودة إلى دمشق نصحه بعضهم في بانياس باصطحاب مرافقين مسلحين، لكنه كان يعرف أن ذلك لا يجدي نفعاً والأمر، كما رأى، محاولة للابتزاز من البعض دون

ضمان سلامته. لذلك قرر انتظار القافلة، ولحسن حظه أن شيخ قرية بانياس كان عنده عمل في دمشق، وكان سعيداً هو والشيخ بأن يكونا رفيقين. 
بعد الظهر تحركت القافلة من خلف قلعة الصبيبة، وعبرت إلى جانب العديد من أكواخ الفلاحين الصيفية، التي يغادرونها في الشتاء إلى قراهم. وهؤلاء يصنعون الجبن لتوريده إلى سوق دمشق. وفي طريقهم يمرون على عين الحزوري، وهي تقع قرب ضريح الشيخ عثمان الحزوري، ويزعم بيركهارت وجود مدينة أثرية تقع إلى شمال الضريح تدعى حازوري.

جبّاتا الزيت

ثم يتحدث عن أشجار البلوط التي تكثر في المكان وفي وادي خشبة قرب القلعة، حيث يبلغ ارتفاع بعضها ستين قدماً. ويصادفون في سيرهم مراعي كثيرة جيدة إلى أن يصلوا إلى قرية جباتا [الزيت]، حيث ينامون تلك الليلة عند أحد أصدقاء شيخ بانياس. ويشير إلى أن هذه القرية مثلها مثل بانياس تتبع لحاصبيا، وهي مسكونة من خمسين عائلة تركية [يقصد مسلمة] وعشر عوائل يونانية [مسيحية أرثوذكسية]؛ ويعيشون بشكل رئيسي على زراعة الزيتون، وتربية الماشية. ويذكر بيركهارت أنه عولج بشكل جيد من الورم الذي كان يعانيه في المنزل الذي نزلوا به. ولبى دعوة شيخ القرية لشرب القهوة. وكما هي العادة في شهر رمضان قال: إنهم أمضوا الليل في الحديث والتدخين.

ويبدو أن هذه الصحبة قد أعجبت بيركهارت كثيراً، خصوصاً أنهم لم يبخلوا عليه بالمعلومات عندما رأوا تشوقه لمعرفة أسماء الأماكن والقرى والخرائب في هذه المنطقة.
ويبدو أن الأحاديث في تلك السهرة كانت غنية جداً، فها هو يخبرنا، نقلاً عن جلسائه، بوجود حيوانات برية مفترسة في المنطقة، وتحديداً بجوار جبال هيش حيث تكثّر النمور، وجلود هذه الحيوانات مرغوبة جداً من قبل شيوخ العرب البدو كملابس وسروج للخيل، كما يذكر وجود الدببة، والذئاب، والأيائل، أما الخنازير البرية فقد كان يصادفها في كل مكان.


عابراً مجدل شمس

في صباح اليوم التالي، 16 تشرين الأول (أكتوبر)، قرر شيخ قرية بانياس عدم السفر إلى دمشق، بعدما نصحه أصدقاؤه في جباتا بالعدول عن الفكرة، للمخاطر الجسيمة المحتملة على الطريق. فأرسل خادمه بصحبة بيركهارت إلى دمشق فخرجا في الصباح الباكر، وخلال ثلاثة أرباع الساعة وصلا إلى قرية مجدل [شمس] التي قال إن سكانها دروز وهناك بعض العائلات المسيحية.

ثم يصف المجدل بأنها تقع على سفح جبل ويوجد نبع يبعد عنها نصف ساعة. وبعد مسير ساعة وربع الساعة يوجد سهل واسع.

ويلاحظ بيركهارت أن الجبل في المجدل يعتبر من أخصب الأماكن للزراعة، ويكثر فيه شجر البلوط وخوخ الدب، هذا النوع من التوت، الذي يقول إنه يمنح المسافر غذاءً منعشاً جداً. أما الصخور فهي كلسية جزئياً، وهناك صخور بركانية لكن أنعم من تلك التي رآها في الحولة.
وبعد ساعة وربع يصلون إلى بيت جن، التي يقول إنها تقع في واد ضيّق، على جانبه الغربي العديد من الكهوف المظلمة. ويشير إلى نبع بيت جن الغزير، والطاحونة بقربه، ومن هناك، يريان على مسافة نصف ساعة السهل على الجانب الشرقي للجبل، حيث الأراضي السهلية المجاورة لحوران.

ويتابعان طريقهما إلى كفر حور ثم بيت تيما، حيث ينامان تلك الليلة في بيت أحد الفلاحين، ويلاحظ بيركهارت أن المحصول الرئيسي في هذه المنطقة هو القطن.
وفي صباح اليوم التالي يواصلان سيرهما فيصلان إلى قطنا التي يصفها بالقرية الكبيرة، ذات البيوت الجيّدة، والحدائق الواسعة، وبعد ثلاث ساعات يصلان إلى أرض اللوان ثم كفرسوسة، ثم دمشق التي يصل إليها بيركهارت بعد معاناة شديدة وألم كبير بسبب الورم.

جنوب الجولان

في هذه الجزء من الرحلة يزور بيركهارت جنوب الجولان قادماً من جبال عجلون، حيث طاف هناك بين وادي الزرقاء والشريعة [وادي اليرموك]، ومن اللافت للنظر أنه يصادف بين حبراص والصما في منطقة الكفارات، وادياً خصباً اسمه وادي العرب يزرع فيه بني كلاب بضعة حقول، وبني كلاب من عشائر جنوب الجولان المعروفة. 

وبعد أن يصل إلى وادي اليرموك قاصداً فيق في 5 أيار (مايو) 1812، يدعي دليله أنه يجهل الطريق ويقرر العودة إلى حبراص، فيقع بيركهارت في حيرة من أمره، يعود أم يتابع
الرحلة، فتشاء الأقدار أن يلتقي ببعض الفلاحين القادمين من الرمثا في حوران، والذين كانوا في طريقهم إلى الغور لشراء شعير الموسم الجديد، فيلتحق بقافلتهم الصغيرة، ويواصل سفره

معهم من أم قيس إلى شريعة المناظرة [وادي اليرموك].

ويذكر بيركهارت أن اسم هذه الشريعة مأخوذ من اسم البدو الذين يعيشون على ضفافه، وهم عرب المناظرة ساكنو الخيام، حيث يتنقلون من مكان إلى آخر دون أن يبتعدوا عن الوادي. ويقول إنهم يزرعون القمح والشعير والرمان والليمون والعنب وأنواعاً أخرى كثيرة من الأشجار المثمرة والخضروات، التي يبيعونها في قرى الجولان وحوران.

ويدخل بيركهارت وصحبه وادي الغور، الذي يمكن مقارنته بوادي البقاع بين جبال لبنان، وبوادي الغاب في حوض العاصي. ويعتبر بيركهارت هذا الغور من أخفض المناطق في سورية ودرجة حرارته أعلى من أي منطقة أخرى فيها. وهذا المناخ يجعل منتوجات الغور الزراعية تنضج في وقت أبكر بكثير، فحصاد الشعير الذي لا يبدأ في المرتفعات إلا بعد 15 يوماً وجده بيركهارت هنا على وشك الانتهاء.

ويشير إلى أن سهل حوران كان مغطى بأنضر خضرة من الأعشاب البرية بينما جفت كل نبتة في الغور، وبدت الأرض وكأنها في منتصف الصيف. ويستشهد بيركهارت بالرحالة الشهير فولني الذي قال: إن القليل من البلدان تحدث فيها تغييرات في المناخ بصورة مفاجئة كما هي الحال في سورية. ففي الشمال كان جبل الشيخ مغطى بالثلوج، وفي الشرق مرتفعات الجولان الخصبة مكسوة ببراعم الربيع، بينما في الجنوب بدت الحياة النباتية الذابلة في الغور وكأنما لوحتها شمس المناطق الاستوائية.


في سمخ والحمة

ويعبر بيركهارت مخاضة على الشريعة باتجاه شمالي غربي نحو سمخ على الشاطئ الجنوبي لبحيرة طبريا، وفي الطريق يصادف أشجار الزعرور ذات الثمار اللذيدة.
ويصف سمخ بأنها تضم ثلاثين أو أربعين بيتاً حقيراً من الطين وبعضها من الحجر الأسود. وباستثناء مائة فدان حول سمخ لا يلاحظ بيركهارت أي جزء مزروع في هذه الناحية، إلى أن تبدأ حقول الحبوب لعرب الغور، وهم السكان الرئيسيون في الوادي، أما الذين يعيشون قرب سمخ فهم عرب صخور الغور والبشاتوة. ويلاحظ بيركهارت أن الشاطئ خال من الأسماك بسبب الصيد المنظم من قبل صيادين يحتكرون هذه المهنة هنا، كما أنه خال أيضاً من أي أعشاب أو قصب. وأنواع الحصى التي يتكون منها هذا الجانب من البحيرة هي الكوارتز والصوان وحجر التوافيق.

ويشكو بيركهارت من أنه أمضى في سمخ أكثر الليالي إزعاجاً في حياته نتيجة لسع البعوض والحشرات الطفيلية الأخرى. وفي الصباح الباكر من يوم 6 أيار (مايو) يبدأ رحلة البحث عن الينابيع الحارة في وادي اليرموك فيصل إلى الحمة على مسافة ساعة وثلاثة أرباع الساعة من سمخ، ويلفت نظره ذلك التباين بين سواد الصخور والخضرة التي تنبعث منها رائحة كبريتية قوية. ويشير إلى نمو عدد كبير من الشجيرات وبعض أشجار النخيل، ويلاحظ أن الماء الحار يتدفق من حوض مساحته حوالي أربعين قدماً وعمقه خمسة أقدام، وهو محاط بخرائب من الجدران والأبنية ويشكل في الأسفل جدولاً صغيراً ينحدر إلى النهر.

ويذكر أن هذه المياه الحارة، التي وجد صعوبة في وضع يده فيها، ترسب على الحجارة قشرة صفراء كبريتية يجمعها البدو المجاورون لعلاج جمالهم من الجرب.

ويستطرد في وصف بناء الحمة فيقول إن الحوض الذي كان مبلطاً يوجد فوقه مباشرة بناء مكشوف مقنطر مع عمود مكسور، وخلفه عدة حجرات مقنطرة أيضاً لإيواء الزوار. ويلاحظ أن الحجارة التي بني منها هذا المكان أصبحت منخورة بسبب تصاعد الغازات. ويذكر أن هذا الينبوع يسمى حمة الشيخ [المقلى]، وهو أشد الينابيع سخونة، وعلى مسافة خمس دقائق هناك ينبوع آخر حوله أبنية قديمة إلا أنه أبرد من الأول يسمى حمة الريح. ويعدد بيركهارت أسماء ثمانية ينابيع أخرى صعداً في الوادي دون أن يزورها، وهي حمة عند الطواحين، وحمة بيت سراية، وحمة الصوانية، وحمة العريشة، وحمة زور الديك، وحمة الرملية، وحمة مسعود، وحمة أم سليم، وهذه الأخيرة تبعد عن حمة الشيخ [المقلى] ساعتين ونصف الساعة.

ويذكر بيركهارت أن الكثير من الناس يأتون إلى حمة الشيخ [المقلى] في شهر نيسان/ إبريل، وأن أهالي نابلس والناصرة يفضلون هذه الحمة على حمام طبريا، وهم يمكثون هنا عادة حوالي أسبوعين.
بعد زيارة الحمة عاد بيركهارت ورفاقه في الطريق التي أتوا منها، وبعد وصولهم إلى الغور انعطفوا يميناً وصعدوا إلى الجبل، فصادفوا في طريقهم خنزيراً برياً كبيراً، ويذكر أن رفاقه أخبروه بأن عرب الوادي لا يستطيعون زراعة الشعير العربي لأن الخنازير البرية تأكله بنهم، ولهذا يضطرون لزراعة نوع أردأ يسمى الشعير الخشّابي لأن الخنازير لا تقترب منه.

وبعد ثلاثة أرباع الساعة من الصعود يصلون إلى نبع يدعى عين الخان بالقرب من خان العقبة، الذي يعد معبراً هاماً يربط الجولان والأجزاء الشمالية من حوران بالغور.


مضافات عمومية

وبعد نصف ساعة من ذلك وصلوا إلى قمة الجبل حيث بدأ من هناك سهل منبسط، قادهم بعد أكثر من ساعة إلى قرية فيق. وقد استغرقت الرحلة من سمخ إلى الحمة ثم إلى فيق أربع ساعات ونصف الساعة من الطريق التي سلكوها.

وعن فيق، يقول بيركهارت: "فيق قرية كبيرة، تسكنها أكثر من مائتي عائلة. وهي تقع على رأس واد يحمل اسم البلدة، وعلى حافة الجبل الذي يحصر شاطئ طبريا الشرقي، ولها إطلاله خلابة على الجزء الأوسط من البحيرة. لوادي فيق ثلاثة ينابيع تنبع من تحت جرف صخري، وتدور حول قمة تل بنيت القرية فيه على شكل هلال. وبعد أن تغادر هذا التل على مسافة ثلاثة أرباع الساعة، يواجهك تلّ منفرد على قمته أبنية أثرية وجدران وأعمدة تتصل بقلعة الحصن، ربّما كان هذا المكان بقايا مدينة ريجابا أو عرقوب القديمة. ورغم أن فيق تقع في سهل الجولان، إلا أنها تتبع في الحقيقة إلى حكومة عكا، وأعتقد أن فيق هي المكان الوحيد الذي يتبع لبشالك عكا على الجانب الشرقي من الأردن؛ وقد فصلها عن بشالك دمشق أحمد باشا الجزار. وهي معبر ثابت من حوران إلى طبريا وعكا.

يوجد في البلدة أكثر من ثلاثين بيتاً لها مضافات مفتوحة مجاناً لخدمة العابرين من كل صنف، بما في ذلك تجهيز رواحلهم. ويتقاضى أصحاب هذه الأملاك لقاء نفقاتهم منحة من الحكومة تحسم من الضرائب المتعارف عليها. وإذا كان أحد المنازل (المضافات) يستقبل مسافرين أكثر، كما في حالة الشيخ، لا تؤخذ من صاحب المضافة إطلاقاً ضرائب الميري، وإضافة إلى ذلك يمنحه الباشا علاوة سنوية من المال، خارج ضريبة الميري المفروضة على القرية.

وهذه القوانين الخاصة بالمضافات العمومية تسري على كامل المنطقة الواقعة إلى الجنوب من دمشق، وهي شرف عظيم للأتراك وروحهم المضيافة، لكن في الحقيقة، هذا الإنفاق هو الالتزام الوحيد الذي تعتقد الحكومة أنها تتحمله لمنفعة سكّان البلاد.

يستطيع الفلاح السفر لشهر كامل دون إنفاق بارة واحدة؛ لكن أبناء الطبقة الغنية يعطون بضعة بارات صباح مغادرتهم إلى الخادم أو الناطور. إذا لم يرغب المسافر أن ينزل في المضافة

العمومية، يستطيع أن يذهب إلى أيّ بيت، حيث سيجد صاحبه مضيافاَ، وإذا كانت ظروف مضيفه جيدة فحتماً سيحصل على عشاء جيد.

لاحظت على شرفات كل بيوت فيق وجود غرفة يسمونها حرش مبنية من أغصان الأشجار المغطاة بالحصير، وفي هذه الغرفة الباردة تنكفئ العائلة منتصف النهار هرباً من حر الصيف. وفي فيق آثار عدد من الأبنية القديمة وبرجين صغيرين في أقصى الجرف الصخري. وللقرية حقول واسعة من الزيتون".

وبعد مبيت ليلة في فيق، يأخذ بيركهارت صباح يوم 7 أيار (مايو) طريق السهل المتجه إلى الشمال الشرقي، أي إلى عمل الجولان في التقسيمات الإدارية العثمانية، والذي يحده من الجنوب وادي حامي صقر والشريعة، ويلاحظ بيركهارت أن تسمية الجولان هي نفسها التسمية اليونانية "جولانيتس"، ولكن حدوده الحالية لا تتوافق تماماً مع حدود المقاطعة القديمة التي تنحصر في شريط ضيّق من الأرض على طول الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا، والضفة الشرقية لنهر الأردن.

ويتابع بيركهارت سيره فيصل إلى "بركة نام" [ناب]، التي يقع إلى جانبها نبع، ثم يصل إلى مدينة أثرية يسميها "خستين" [خسفين]، مبنية بالحجارة السوداء ولكن الزمن لم يحفظ أي بناء كبير فيها.

ويحدد بيركهارت موقع تل السقي على مسافة ساعتين وثلاثة أرباع الساعة من جهة اليسار، وموقع تل الفرس، الذي قال إنه يتحول إلى ملجأ للبدو الفارين من ابتزازات الباشا. ثم يذكر أنه عبر وادي المعقّر، الذي يصب في الشريعة.

المساهمون