برنارد فالدنفلس: أخذ الغريب على محمل الجد

برنارد فالدنفلس: أخذ الغريب على محمل الجد

29 نوفمبر 2019
برنارد فالدنفلس
+ الخط -

يطرح الاشتغال بمشكلات فلسفية تُعتبَر هامشيةً، من بين ما يطرح، سؤالَ علاقة الهامش هذا بما يُعتبَر متْنَ الفلسفة: مشكلاتها ومفاهيمها التقليدية. يمكن، إذا ما أردنا التنميط، التمييز بين نمطين تنتظم وفقهما هذه الاشتغالات. في الأوّل، يعمل المؤلّف بعدّة فلسفية مألوفة، نوعاً ما، لمعالجة موضوع غير مألوف في التراث الفلسفي: هذا شائع في أبحاث تسعى غالباً إلى الخروج من عوالم الأكاديميا المغلقة ومواضيعها التجريدية إلى فضاءات أكثر رحابةً وملموسيّةً أو شعبيةً. في النمط الثاني، يلتفت المؤلف إلى الاشتباك، انطلاقاً من موضوعه الهامشيّ، مع متن الفلسفة ومفاهيمها التقليدية، ناقداً إيّاها على ضوئه، وصائغاً في بعض الأحيان مفاهيم وأدوات تحليل جديدة.

تنتمي إلى هذا النمط الأخير أعمال الفيلسوف الألماني برنارد فالدنفلس حول الغريب. يعرف المطّلع على تاريخ الفلسفة أن الغرابة ليست بواحدة من مواضيعها التقليدية. صحيح أن الأمر بدأ يتغيّر، نسبياً، انطلاقاً من القرن التاسع عشر، مع مفهوم التغريب أو الاغتراب عند هيغل وماركس، ومن ثم غرابة الذات على نفسها عند فرويد، ومن بعد ذلك مع الإنسان-الآخر بوصفه غريباً عند هوسرل وكثير من مفكّري القرن العشرين المتحاورين مع أعماله (هايدغر، شوتز، سارتر، ميرلو-بونتي، ليفيناس، ريكور، دريدا)، إلا أن أحداً من هؤلاء لم يجعل من الغريب أساساً لمشروع فلسفي خاصّ به. هذا هو مشروع برنارد فالدنفلس (1934)، أحد أبرز الفلاسفة الألمان الأحياء. تشكّل أعماله، لا سيما "دراسات حول فينومينولوجيا الغريب"، التي نشرها في أربعة أجزاء بين 1997 و1999، ما يشبه نظاماً فلسفيّاً متكاملاً ولافتاً بدقّته وتجديده، محورُه سؤال الغريب. كتابه "فينومينولوجيا الغريب: ملامح أساسية"، الصادرة أخيراً ترجمته الفرنسية (صدر بالألمانية عام 2006)، يسعى إلى تقديم ملخّص موجز للجوانب الأساسية لهذا المشروع الذي يمتح، بشكل أساسي، من أعمال هوسرل وميرلو بونتي وفوكو وليفيناس.

"إذا ما أخذنا الغريب على محمل الجدّ من وجهة نظر فلسفية"، يكتب فالدنفلس في مقدمة الترجمة الفرنسية لـ"طوبوغرافيا الغريب"، الجزء الأول من سلسلة دراساته، "فإنه يبدو أكثر من موضوع عاديّ. ينتمي الغريب، مثله كمثل الجسد واللغة والصورة والزمان والمكان، إلى ذلك الضرب من الظواهر الأساسية التي تسم بميسمها كل ما نقابله". أخْذُ الغريب على محمل الجدّ قد يعني التوقف عن ألْفَنَتِه، جلْبِه إلى حظيرة المألوف والخاص، والقبول، بدلاً من ذلك، بغرابته كما هي، القبول بشروطه التي سيفرضها علينا ما إن قاربناه، واقتفاء آثاره إلى مناطقه الخاصة، بل وإلى منطقه - إن كان ذلك ممكناً. هذا نقد لفلسفات لا تني تبحث عن الغريب على أراضي الخصوصيّة والإلفة، وتسعى إلى استدراجه إليها، كما هو حال الهيرمينوطيقا (غادامير) أو العقل التواصلي (هابرماس)، اللذين يفترضان لغةً مشتركة مع الغريب موجودة مسبقاً.

يفضّل فالدنفلس، بدلاً من ذلك، مقاربة الغريب فينومينولوجياً (ظاهراتيّاً)، أي وصفه كما نختبره في تجربتنا المعيشة. كيف يُعاش الغريب؟ إنه يظهر بوصفه غائباً، محتجباً وعصيّ المنال. لنأخذ، مثلاً، لغة غريبةً، نسمعها تُحكى أمامنا، نحن الذين لا نفهمها - كيف تبدو لنا؟ إنها هنا وليست هنا، حاضرة بمعنى ما (نسمعها تُحكى أمامنا)، لكنها غائبة (لا نفهم منها شيئاً). إنها، بعبارة أخرى، حاضرة بغيابها. هذه المفارقة تطبع خبرتنا حول الغريب: كما سبق لهوسّرل أن كتب في "تأملات ديكارتية"، نجد أنفسنا، مع الغريب، متمكّنين من الوصول على نحو غير مباشر إلى شيء لا يمكننا الوصول إليه مباشرةً. أي أن في اختبارنا الغريب ما يشبه تجاوز الخبرة لنفسها.

أوّل التفريقات المفهومية الأساسية التي يقوم بها فالدنفلس، تفريقه بين الغريب والآخر. ليس الغريب آخرَ بالضرورة. فالآخر نقيضٌ لما يمكن أن نسمّيه، عربياً، بالأمر نفسه (Selben, idem, même, same). نحن نتحدّث، مثلاً، عن الفرق بين تفاحة وأخرى، ولكننا لا نستطيع القول بأن هذه التفاحة غريبة على تلك الأخرى. ذلك أنه لا توجد علاقة تبادلية مباشرة بينهما: فالتمييز بين أمر ما وبين آخره يجري تحديده انطلاقاً من وجهة نظر خارجية، ثالثة.

أما الغريب، فهو ما يناقض الذات (Selbst, ipse, soi, self)، بوصفها فضاء المألوفّ والخصوصيّ والحيّز الذي يشكّل وجهة نظرنا وقضاء عيشنا. بعكس الآخر، يفترض ويتطلّب تحديدُ الغريب حيّزاً خاصاً ينطلق منه هذا التحديد، وبالتالي علاقة تبادلية مباشرة. بهذا المعنى، كلّ غريب هو غريب بالنسبة إلى خصوصية معيّنة. على أن تمييزاً كهذا لا يعني أبداً أن الخاص مسكون بالإلفة وحدها، وأن الغريب لا علاقة له أبداً بالمألوف. كما يشير فالدنفلس، ليس تاريخ الفكر الغربي الحديث، وأعمال مفكرين مثل كييركيغارد ونيتشه وفرويد، إلا نتيجة للصحوة من الوهم الذي جعل من الذاتيّ والخاص مملكة للإلفة والعقلانية نسيطر عليها من بابها إلى محرابها. بهذا المعنى، يمكن قراءة الفكر الغربي الحديث باعتباره اعترافاً للغريب بمكانه في الحيّز الخاص.

يميّز فالدنفلس بين غريب يوميّ وآخر بنيويّ وثالث جذريّ. نقابل الغريب اليوميّ بوصفه جهلاً أو لا-خبرةً تظهر لنا داخل عالمنا المألوف، كما قد يحدث مع حيّ في مدينتنا لا نعرف حواريه وأزقّته. تتعلّق الغرابة البنيوية، بدورها، بعوالم يجهلها مَن هم خارجها، مثل مجتمع غريب بالنسبة إلى من لا ينتمي إليه. يشترك هذان الصنفان من الغرابة بأنهما متعلقان بالحالة الحالية للأمور وقابلان، بالتالي، للتغيّر. مثلاً، يمكن للشخص الذي لا أعرفه اليوم أن يصبح مألوفاً لي غداً، كما يمكن للغة التي أراها غريبة اليوم أن تصبح لغة أجيدها بعد عدّة سنوات. بهذا المعنى، تمثّل الغرابة اليومية والبنيوية، وإن بنسَب مختلفة، نقصاً يمكن تعويضه مع الوقت.

أما الغريب الجذريّ، الذي يعني فالدنفلس في الدرجة الأولى، فهو الذي يبقى غريباً في كلّ حال، مقاوماً محاولاتنا الإمساك به والسيطرة عليه. يُحدّد هذا الغريب بوصفه غريباً على نظام أو تدبير ما (Orders, ordres)، بالمعنى الفوكوي للمفهوم، أي على فضاء خطابيّ محكوم (وحاكم) بعدد من القواعد التي تحدّد حدوده وممكناته. تنتمي إلى هذا النوع من الغرابة الظواهر التي يسمّيها الفيلسوف الألماني بالظواهر الحدودية، أو القُصوويّة، مثل ظواهر الولادة والحب والنوم والموت، وبعض ظواهر الفن، وكذلك الثورات أو حتى الكوارث الطبيعية. يظهر هذا النمط من الغريب على حدود الأنظمة أو التدابير، أي على حدود العادات والقوانين، حدود الأمكنة، حدود المفهوم والمعقول والمتوقّع. وهو، بهذا، يظهر كشيء غير نظامي، غير معقول وخارق للمعتاد.

يتميّز هذا الغريب، أيضاً، بأنّ هوّة زمنية دائماً ما تفصلنا عنه: فهو دائماً ما يملك المبادرة، ونحن دائماً ما نكون في موقع المتأخرين في علاقتنا به، أو المبكّرين على موعد غير محدّد معه. من النادر أن تجد مجتمعاً يقف متفرجاً إزاء غرابة من هذا النوع. ويمكن الحديث، كمثال عن محاولات جر الغرابة إلى حظيرة المألوف، عن الطقوس المرافقة للموت في عدد من الثقافات، أو عن تقليد إطلاق أسماء على الأعاصير. حتى المعرفة، إذا ما فهمناها من وجهة نظر نيتشوية، ستبدو مسعىً لانهائياً لتجاوز الإحساس بالقلق الذي تثيره فينا لا-معرفة الغريب.

لا بدّ من القول إن الحديث عن غريب جذريّ، هنا، لا يعني الحديث عن غريب مطلق. إذ أن لغةً غريبةً كلّياً بالنسبة إلنا، إن وُجدتْ، لن تكون شيئاً يمكننا حتّى تحديده كلغة. فكما يوجد غريبٌ في كلّ مألوف، ثمة مألوفٌ في كل غريب. ومن دون تداخل بينهما، لا يمكن وجود شيء اسمه خصوصي ومألوف ولا شيء اسمه غريب. هذه الخلاصات، التي قد تبدو بديهية في واحد من المعاني، تظلّ غاية في الأهمية على المستوى النظريّ. فهي تزوّدنا بأدوات جديدة ومتينة لفهم ظواهر، مثل الأصل واللغة الأم والعرق والأمة والوطن، كثيراً ما تُستغلّ في ظروف الانغلاق الاجتماعي والنرجسية الثقافية أو القومية. فالغريب يبدأ في ذواتنا، في بيتنا وداخل لغتنا الأم وثقافتنا الخاصة، قبل أن يكون شيئاً خارجياً. ولادتُنا، مثلاً، حدثٌ أساسي بالنسبة إلينا، لكنه حدث دائماً ما نكون متأخّرين إزاءه، دائماً ما يتجاوزنا، نحن الذين لا نعرف عنه إلا ما قيل لنا. كذلك هو حال أسمائنا الخاصة التي نحملها وتحمل فيها ما يتجاوز حيّزنا الشخصيّ. الأمر نفسه ينطبق على اللغة الأم والعرق والأمة والوطن.

لا يأخذ الغريب، في فينومينولوجيا فالدنفلس، بعداً جوهرياً. على العكس من ذلك، هو عنده حالة تبادلية أو علائقية، محكومة بالسياق، كما هو الحال مع ضمائر "أنا" و"أنت" التي لا تكفّ عن الدوران والتداول بين المتحدثين. بعبارة أخرى، لا يمكن لشخص ما، مثلاً، أن يكون غريباً بحدّ ذاته أو غريباً دائماً، تماماً كما لا يمكننا الحديث عن جهة يسرى بشكل عام. فغرابة هذا الشخص ويَسْرَةُ هذه الجهة يُحدَّدَان بالتباين مع شيء آخر. وما ينطبق هنا على الغريب، ينطبق أيضاً على الخصوصية، بوصفها وجهه الآخر.

على أن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف يمكن الحديث، فلسفياً، عمّا يبقى متوارياً ولا يمكن الوصول إليه، دون الخوض في لغات دينية وصوفية؟ بجملة أخرى: كيف يمكن وصف ما يظهر محتجباً؟ تشكل خصوصية الغريب هذه اختباراً حقيقياً لفلسفة مثل الفينومينولوجيا قائمة أساساً على وصف الطريقة التي تظهر بها الأشياء والمعنى الذي تأخذه في الوعي والخبرة. في نصّ بعنوان “وصف غير مباشر”، ينوّه فالدنفلس بأن محاولات الذهاب نحو الغريب لوصفه مباشرة محكومةٌ بمحوه، تماماً كما يمحو النكتةَ شرحُها. تجد هذه المفارقة صيغتها الأكثر راديكالية في ما يسمّى بعلم الغريب، المقدّر له أن يحذف موضوعه بالقدر الذي يحاول فيه معرفته. يقترح الفيلسوف الألماني طريقاً أخرى، يسمّيها بالفينومينولوجيا الجوابية أو الردّيّة (responsive Phänomenologie)، التي من شأنها مقاربة الغريب من دون تملّكه أو محوه.

لا تنطلق هذه الفينومينولوجيا من التحليل القصديّ لظاهرة الغريب، كما هو معتاد تقليدياً. ذلك أن ظاهرة الغريب تتجاوز كلّ قصديّة وكلّ معنىً ومحتوىً مكوّنين سلفاً. هي تنطلق، بدلاً من ذلك، من الآثار التي يتركها الغريب. كما يكتب فالدنفلس، لا يظهر الغريب إلا كحدث يأخذنا على غفلة، متجاوزاً معارفنا وتدابيرنا، ومثيراً قلقنا وحيرتنا. وفقاً لهذا المنطق، يبدو الغريب أشبه بالتماس أو نداء نجد أنفسنا مأخوذين بالردّ عليه، إن كان ذلك بالفعل أو بالكلام. حتى عدم الردّ على الغريب، في حالة كهذه، سيعتبر واحداً من أشكال الردّ. البدء من هنا، كما يقترح فالدنفلس، من هذه المساحة البين-ذاتية أو الحدودية التي يحدث فيها الالتماس وفعل الردّ، يحفظ للغريب غرابته، دون إجباره على الخوض في مساحات ولغات خاصة، ودون إهماله. والردّ أو الجواب، في منطق كهذا، مختلف عن الردّ على سؤال؛ إنه شيء يجري إبداعه في كل حالة وفي كلّ سياق.

إذا كانت ترجمة أعمال برنارد فالدنفلس، حتى يومنا هذا، نادرة إلى لغات مثل الفرنسية والإنكليزية، فإنها، في ما يخص اللغة العربية، لم تبدأ بعد. أمر مؤسف بالتأكيد، خصوصاً إذا ما وضعناه في سياق ظاهرة الانقطاع العامة، عربياً، عن ترجمة الاشتغالات الفلسفية المعاصرة. في وسع المرء أن يأمل أن تكون غرابة مشروع فالدنفلس على اللغة العربية من ذلك النوع البسيط من الغرابة، الذي يمكن تعويضه في أسرع وقت...

المساهمون