عن أفول الإطارات الثقافية التقليدية في المغرب

عن أفول الإطارات الثقافية التقليدية في المغرب

15 نوفمبر 2019
بوّابات "دار المخزن" في فاس (غيتي)
+ الخط -

بموازاة تقهقر دور المؤسّسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية في المغرب وغلبة صراعاتها الداخلية على ما تُقدّمه للمشهد الثقافي، تبدو الوجوه الثقافية التقليدية، التي كانت إلى وقت غير بعيد مسموعةً وعلى قدر من التأثير بخطاباتها ومشاريعها الثقافية والفنية الخاصة، قد تراجعت هي الأُخرى إلى الصفوف الخلفية، متخلّيةً بذلك عن الدور الريادي الذي يُفترَض أن تقوم به "النخب الثقافية" التي باتت، اليوم، منهمكةً بتراشق الاتهامات أكثر من انشغالها بإنتاج الأفكار.

أمام هذا الوضع، أضحى الكاتب/ الفنان يعيش عزلته الخاصّة، وبدت القضايا الكبرى بعيدةً عن اهتماماته، بل إنّ كثيرين تركوا تلك القضايا جانباً، وانكفأوا على عوالمهم الداخلية والمتعلّقة بوجدانهم الخاص.

بناءً على ما تقدّم، هل بإمكاننا الحديث عن نهاية دور "النخب الثقافية" التقليدية؟ وهل أصبحنا اليوم أمام أدوار جديدة للمثقّف؟ وفاعلين جدد في المجال الثقافي والفني؟ هذه الأسئلةُ وأُخرى طرحتها "العربي الجديد" على عدد من الكتّاب والشعراء والنقّاد في المغرب.

يُفسّر الشاعر والناقد الطيب هلو ما يسمّيه ضموراً في المؤسّسات الثقافية التقليدية باختلاف السياق الحالي عن ذلك الذي نشأت فيه، موضّحاً: "إنْ كانت تلك المؤسّسات قد ظهرت في جوّ يؤمن بدور المثقّف في التغيير ويتّسم بالنضال والتكتّل والعمل الجماعي ضمن منطلقات مشتركة، فإنّ المشهد اليوم يعيش نزوعاً إلى الفردانية وتغليب الذات والنظر إلى الإبداع وفق المصالح الشخصية الآنية".

يضيف: "لعلّ استمرار عمل هذه المؤسّسات وفق الآليات القديمة في عالم متحوّل تغذّيه العولمة وتيارات ما بعد الحداثة أحد أسباب فقدان فاعليتها، يُضاف إلى ذلك تهافت المنتفعين على مواقعها وتعفّف النزهاء عنها، ما أدّى في النهاية إلى احتدام الصراعات على المواقع والمصالح وغياب البرامج الثقافية الجادّة".

ويعترف هلو أنّ "تأثير المثقّف في المجتمع باتَ ضئيلاً، إن لم نقل إنّه صار محطّ سخرية وتندُّر، كما أنه كثيراً ما ينشغل بتبادل الاتهامات مع غيره بدل أن يكون فاعلاً"، مضيفاً أنّ وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تغذية "الحروب الصغيرة" بين المثقّفين، وجعلتهم يبتعدون عن دورهم كمؤثّرين، لينشغلوا بمتابعة الردود واحتساب عدد الإعجابات على ما ينشرونه في تلك المواقع.

يطرح هلو السؤال الآتي: هل ما زال المثقّفُ مؤثّراً في محيطه؟ ليجيب بأنّه لم يعد كذلك، بعد أن فقد احترام المجتمع الذي يلمس غيابه عن أحداثه الكبرى وقضاياه المصيرية، مضيفاً: "لعلّ كلّ ما سبق يؤكد نهاية المثقّف، أو ما يسمّيه علي حرب "أوهام النخب" في هذا العصر الذي يتّسم بالسيولة بتعبير زيغمونت باومان".

أمّا الأكاديمية والناقدة المسرحية الزهرة إبراهيم، فتعتبر أنّ شخصية "الطايع" في رواية "لعبة النسيان" لمحمد برادة تختصر وضعية المثقّف في المغرب حالياً؛ حيث أفرزت السنوات الأخيرة تركيبةً من المحسوبين على الفكر والثقافة ممّن ليس لديهم أيّ ارتباط بواقع مجتمعهم، وفق تعبيرها.

توضّح إبراهيم لـ "العربي الجديد": "يمكن تصنيف المثقّف في المغرب إلى ثلاثة أقسام: الأوّل كان شاهداً على الخيارات التي دمّرت الحلم الوطني الذي صاغه مثقّف مرحلة ما بعد الاستقلال، ووجد نفسه معتقَلاً أو منبوذاً، وكان عليه أن يختار بين أحد أمرَين: أن يتمسّك بقناعاته الثورية ويزهد في الكعكة، أو أن يتنكّر لمبادئه وينغمس في الريع. أمّا الثاني، فيتلوّن بحسب الظروف، ولا يهمّه سوى تكريس اسمه وتأكيد حضوره في المشهد الثقافي، بينما لا يجرؤ الثالث على محاولة فهم الدور الذي عليه أن يقوم به إزاء مجتمعه، وهذا القسم أسهم بشكل كبير في انحدار رسالة الثقافة النبيلة إلى الحضيض".

وترى إبراهيم أن المثقّف المغربي بحاجة إلى تمثُّل رؤى أنطونيو غرامشي في سلوكه اليومي وفي منجزه الفكري والأدبي والفنّي، إن هو أراد ترك بصمةٍ في لحظة تاريخية مفصلية يعيشها مجتمعه.

من جهته، يُشير الشاعر والمترجم نور الدين ضرار في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أنَّ معظم المهتمّين بالشأن الثقافي في المغرب يُجمعون على أنّ صورة المشهد باتت باهتةً في السنوات الأخيرة، بسبب غياب الاستراتيجيات الجادّة وكثرة الأعطاب الهيكلية والأخلاقية التي صارت تنهش مؤسّساته الرسمية وغير الرسمية.

ورغم انتظام العديد من التظاهرات الثقافية والفنية في البلاد وتزايد صدور الدوريات التي تُعنى بالفكر والثقافة والفن، فإن ضرار يرى أنّ ثمّة تكريساً للتعامل مع الثقافة كترف يكتسي في الكثير من الحالات طابع الترفيه والبهرجة، وهو ما يُفقد الثقافة قيمتها الرمزية ويكبح قدرتها على تنمية القدرات واستثمار الرأسمال البشري، مضيفاً أنّ تردّي الواقع الثقافي انعكس سلباً على الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية، وأدّى إلى انفصال ما يُسمّى بالنخبة عن القاعدة على المستويَين الثقافي والسياسي.

ويرى الناقد عبد اللطيف محفوظ أنّ توجُّه المثقّفين إلى التفكير في العموميات الفكرية والأدبية يعكس يأساً من التأثير الفعلي في المشهد العام، وهو يأسٌ يغذّيه غياب جبهة قوية تمتلك مشروعاً ثقافياً فاعلاً، مضيفاً أنّ أحد تجلّيات هذا الواضع هو الصراع الذي نشب منذ قرابة عشر سنوات على قيادة "اتحاد كتّاب المغرب"، مُعتبراً أنه صراع نفوذ ومصالح، لا صراع أفكار ومشاريع.

لا يخصّ محفوظ المؤسّسات الرسمية بالنقد؛ إذ يعتبر أنّ المؤسّسات البديلة التي تُحرّك المشهد الثقافي الحالي لا ترتبط، في معظمها، بمشروع وطني، بل بمؤسّسات تخضع لسياسات خاصّة، مستشهداً هنا بالمراكز الثقافية الأجنبية و"بيوت الشعر"، وهو ما يؤكّد - وفق قوله - أنَّ الفعل الثقافي المغربي مسيَّر، في معظمه، إمّا من قبل جهات غريبة عنه، تُفقده هويته وتستعمله لصالحها بما توفّره من شروط مغرية، أو من قبل مؤسّسات حزبية.

يضيف: "بما أنّ المؤسّسات الثقافية الكبرى تابعةٌ للدولة أو للأحزاب غالباً، فقد رافق انهيار شعبية الأحزاب السياسية في السنوات الأخيرة انهيارٌ في المؤسّسات الثقافية، ورافق التشكيكُ في المناضلين السياسيّين تشكيك في حقيقة المثقّفين الذين أبانوا أنهم غير معنيّين إطلاقاً بأيّة قضية، عدا التموقع في مؤسّسات الدولة؛ كالوزارة والمديريات والمندوبيات ومكاتب اتّحاد الكتّاب المركزية والفرعية، وغيرها من الهيئات التي تُوفّر لأعضائها منافع مادية ومعنوية يعجزون عن تحقيقها بالاعتماد على إنتاجهم الفكري أو الأدبي".

المساهمون