أنسليم كيفر.. محاولات في تفسير الخراب

أنسليم كيفر.. محاولات في تفسير الخراب

14 نوفمبر 2019
(من المعرض)
+ الخط -

في قبو أحد المستشفيات والقصفُ يتواصل طوال الليل، وُلد أنسليم كيفر (1945) خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وكانت أنقاض الأبنية مصدر لهوه في طفولته المبكرة قبل إعادة إعمار بلاده مطلع خمسينيات القرن الماضي، غير أن الأنقاض ستبقى حاضرة في أعماله إلى اليوم.

يقرّ الفنان الألماني أنه نشأ في ظلّ منظومة استبدادية، في المدرسة والكنيسة والبيت، وكان والده الضابط القاسي معلّمه الأول الذي قاده إلى الرسم، وعرّفه على الفنانين الذين نبذهم الحزب النازي مثل ماكس بكمان، وبول كلي، وأوتو ديكس، ومارغ مول وآخرين.

حتى السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير المقبل، يتواصل معرضه الجديد في "غاليري وايت كاب" في لندن، والذي افتتح منتصف الشهر الجاري، ويضمّ لوحات وأعمالاً تركيبية ومنحوتات تمثّل نتاج قراءته لتاريخ الفلسفة والتصوّف، وتصوراته حول استعمالات الجسد وطرق قهر الإنسان واستغلاله.

اختار كيفر عنواناً مركباً لمعرضه يجمع بين "نظرية الأوتار"، وأسطورة "نورنز" الإسكندنافية التي تتحدّث عن امرأة تتحكّم في مصائر الرجال، والأبجدية الرونية وهي التي كانت تستخدمها اللغات الجرمانية قبل اعتمادها أبجدية لاتينية، والعقدة الغوردية التي استطاع الإسكندر الأكبر فكّها، وهي تحيل إلى كلّ عملٍ يتطلب جرأة فائقة لإنجازه.

يمكن اعتبار "نظرية الأوتار" قوام المعرض، وهي التي تقول بأن تركيب الكون يستند إلى معادلات رياضية معقدة، حيث تشكّل محصلة قوى متعدّدة مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية، وأن كل شيء مرتبط بمرجعيات تاريخية وثقافية وميثولوجية، وأن كل وحدة بنائية هي أوتار حلقية من الطاقة تجعل مكوّناتها في حالة من عدم الاستقرار الدائم.

الفنان الذي درس القانون في الجامعة قبل أن يلتحق بعدد من أكاديميات الفنون الجميلة في بلاده، كان معنياً منذ بداياته بالخراب كمفهوم وبنية، ومنبعه الأساسي لدى الفنانَين الألمانييْن بيتر درير وجوزيف بويز، ليتابع تجريبه حول فعل الهدم، في محاولة للابتعاد عن العبث الذي ذهب إليه معلماه، وباحثاً عن معنى للكارثة التي يعيشها البشر.

من المعرضعلى طول ممر المعرض، يوجد تركيب واحد يتكوّن من ثلاثين قطعة خلف واجهات زجاجية، نجد معها مجموعة ألواح بارتفاع أربعة أمتار، ذات كثافة عالية وملطخة ومتداعية، إضافة إلى كتل متشابكة من الأنابيب البلاستيكية، احتوت عبارات مكتوبة بخط اليد ومعادلات تتعلق بنظريات علمية وأساطير قديمة.

في هذه السلسلة الجديدة، يقدّم كيفر رؤية مغايرة لدائرة تتكوّن من عناصر متناقصة وتضمّ بداية ونهاية تشيران إلى ثنائية الانحلال والانبعاث، وإلى إمكانية النمو والتوسع خارج حدود الأرض، ويضع تلك المقاطع من الأبجديات الجرمانية القديمة التي كان يستخدمها المتصوّفون المسيحيون في محاولة فهم أسرار العالم، وفي وسط ذلك كلّه فأس تشير إلى الأداة التي استخدمها الإسكندر الأكبر.

يلتقط الفنان في كلّ مرة أفكاره من تلك المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت، محاولاً على الدوام تفكيكها بالاعتماد على أدبيات العلم، والحكايات الخرافية التي شكّلت الوعي الجمعي للإنسانية، وأحداث التاريخ التي صنع منها البشر مآسيهم ثم عاشوا بعدها زمناً طويلاً من أجل نسيانها، في إشارة دائمة إلى الحرب، ولا يغيب عن هذا المشهد توظيف الكتابة والكِتاب كلازمتين لا يمكن الاستغناء عنهما.

وينطلق في تجسيد كلّ هذه المفاهيم من تجريبه المستمر في استخدام مواد من الطبيعة لم يألفها الفن مجتمعة من قبل، مثل الطين والرمل والزجاج والشعر والنباتات والقش والرصاص وقصاصات الورق والصور من الأرشيف، والتي يكوّن منها معظم أعماله ويدفعها إلى التعبير عن مواضيع غير مطروقة سلفاً، بأحجام كبيرة جداً غالباً.

المساهمون