الانتصار على التاريخ

الانتصار على التاريخ

25 أكتوبر 2019
(مقطع من عمل لـ سعد يكن/ سورية)
+ الخط -

في كتابه "بيانات لمسرح عربي جديد"، كتب سعد الله ونوس مقالةً بعنوان "لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني؟"، وقدّم فيها تفسيره الخاص المختلف للموقف الذي اتخذته الرجعية الدمشقية في القرن التاسع عشر ضد أبي خليل القباني الذي يُعتبر أحد مؤسّسي المسرح العربي، ويقول إن حركة المسرح كانت، منذ النشأة، جزءاً من حركة التنوير التي بدأت تشهدها المنطقة العربية، والتي رافقت نشأة وصعود البرجوازية العربية في المجتمع.

وقد كان المسرح، أو الظاهرة المسرحية نفسها، وليس الموضوعات التي قاربها أبو خليل القباني، وهي موضوعات عادية لم تتّسم بأي نفس ثوري، أو لم تتعرّض لأي قيمة من قيم المجتمع، هي السبب الذي أثار نقمة الرجعية، ورجال الدين، فتقدّموا بعريضة وقّعها عددٌ من أعيان دمشق، بلغ عددهم ستّة وعشرين شخصاً، وحملها أحدهم، واسمه سعيد الغبرا، إلى السلطان العثماني الذي أمر بإغلاق مسرح القباني، ومنع "الكوميضة" (هذا هو الاسم الذي أُطلق على المسرح في تلك السنوات من القرن التاسع عشر) من العمل مرة ثانية.

كان المسرح قد بدا، منذ نشأته في التاريخ، قادراً على توظيف الفنون في المسألة الاجتماعية، وفي النضال من أجل الحرية والعدالة، ومناسباً للمشاركة في السجالات الفكرية والسياسية في معظم الثقافات في العالم. ولدى كل أمّة كتّاب مسرحيون انخرطوا عبر أعمالهم الأدبية في الشأن العام؛ فجوهر الظاهرة المسرحية، كما يقول سعد الله ونوس، هو "التفاعل الإيجابي والفعال بين العرض المسرحي وجمهوره". وقد ارتبط المسرح، منذ نشأته، ربما أكثر من الرواية، بمهمّتَين، لم يتردد البتة في الإعلان عنهما مقترنتَين معاً، المهمّة الأولى هي الإمتاع، والمهمة الثانية هي التعليم، بينما لا نجد لدى الرواية، أو في تاريخ نشأة الرواية، مثل هذا الإعلان الصريح في الموضوع التعليمي.

كتب سعد الله ونوس مقالته في عام 1970، وقال إن السلطة انتصرت على القباني، ولكنها لم تنتصر على التاريخ. كان الأمل هو الذي يحدوه لكتابة هذه الكلمات، والعمل من أجل إحياء الظاهرة المسرحية من جديد. غير أن الوقائع كانت تقول ما يمنع الأمل من التحقق، إذ صحيح أنَّ حادثة أبي خليل القباني لم تتكرّر مرةً ثانية علناً، ولم يُمنع المسرحيون العرب من كتابة المسرحيات، غير أن المسرح نفسه، كظاهرة، أي كحالة تفاعل مباشرة بين الخشبة وبين الجمهور، لم يُسمَح له بالانتعاش مرة ثانية طوال أكثر من مائة وخمسين عاماً تلت إغلاق مسرح أبي خليل.

لم يكن فتور المسرحي، أو تراجعه، هو السبب، بل قوّة الكبح والمنع التي تمثّلت بالسلطة التي تعرف جيداً أنَّ وجود المسرح نفسه يجسد أحد وجوه العلاقة بين الفن والشعب، أو بين الوعي الفكري والفني ومصالح الأكثرية الشعبية، إذ يتطلّب المسرحُ حضور هذه العلاقة حضوراً عينياً يتمثل في المسارح نفسها التي يقدّم فيها الممثلون الحكاية أمام جمهور محدَّد قد يتجاوز في كل عرض مسرحي عدد الذين يقرأون أي رواية قاطبة. وفي هذه الحالة، فقد تمكنت الأنظمة من الانتصار على التاريخ.

المساهمون