ليوناردو راوولف.. الرحالة الهولندي في حوض الفرات عام 1573

ليوناردو راوولف.. الرحالة الهولندي في حوض الفرات عام 1573

19 أكتوبر 2019
ضفاف الفرات، سنة 1890(Getty)
+ الخط -

استعرضنا سابقاً رحلة عالم النبات الهولندي ليونارد راوولف إلى الشرق، وتحديداً وصفه النادر لمدينة حلب في مطلع العصر العثماني. ونستعرض هنا رحلته في منطقة حوض الفرات التي كانت تحت حكم أحد أمراء قبيلة الموالي من آل أبو ريشة.

فبعد أن وصل راوولف إلى البيرة على نهر الفرات، قادماً من حلب، ركب مركباً نهرياً للسفر، هو وأصناف شتى من الناس، وتابع رحلته إلى مدينة الرقة التي يقول إن التتار دمروها. ثم يصادف في رحلته النهرية مضارب الأعراب المتجهة إلى الجنوب برئاسة الأمير محمد بن أبي ريشة، حيث يقدّم وصفاً أميناً لحال الأعراب في ذلك الزمن من عام 1573م.

يقول راوولف: "بعد أن أوسقنا سفينتنا والسفن والأخرى التي كانت معها، وبعد أن أعدت كل اللوازم الضرورية لذلك، صعدنا إلى السفينة فبدأت رحلتها باسم الله في مساء اليوم الثلاثين من آب سنة 1574م (بعد أن مكثنا هناك سبعة عشر يوماً) ونحن نعتزم أن نقطع في تلك الليلة ثلاثين فرسخاً، غير أن اثنتين من السفن انسابتا في واحد من فروع النهر العديدة منذ البداية، وإذ ذاك عانى ملاحونا أتعاباً شاقة في دفعهما إلى الاتجاه الصحيح، وهكذا بقينا ننتظرهم وقد أتعبنا الانتظار كثيراً، وعندئذ أمضينا الليلة في سوق مدينة تدعى (كسرة) تقع على قمة ربوة وعلى بعد فرسخ من المكان الذي حللنا فيه.

وحين طلع النهار في صباح اليوم التالي، صعدنا إلى السفينة فاستأنفنا السفر وكنا في البداية محظوظين، إذ أخذت جبال طوروس التي كانت تقع على يسارنا وتمتد إلى ناحية الشرق، تختفي عنا تدريجاً، ومن ثم اتجهنا إلى ناحية اليمين، وكان النهر فيها يسير وسط صحارٍ واسعة ومناطق تمثل الأرض العربية، لم يتفرع إلى فروع عريضة صعب على الملاحين تعيين الاتجاه الصحيح الذي يسيرون فيه".

ويضيف: "في اليوم التالي سارت ملاحتنا سيراً حسناً، فوصلنا عند الظهر إلى قلعة حصينة تدعى "قلعة النجم" تقع على الضفة اليمنى من النهر فوق ربوة ضمن أراضي أمير العرب الذي خاض غمار حروب طويلة مع السلطان العثماني، وهذا ما استطعت أن أفهمه ولو أنني لا أعرف لغة القوم جيداً. ولم يستطع السلطان أن يلحق الضرر بالأمير العربي، لأنه لم يستطع أن يتعقبه في الصحراء، وذلك بسبب نقص الماء والزاد.

ولقد بادر أكبر أنجال الأمير فتحصن في هذه القلعة ظناً منه أنه سيكون بمنجاة من أي هجوم خارجي عليه، وبذلك ارتكب خطأ فظيعاً. لأن السلطان ما إن علم بوجوده هناك حتى عقد النية على احتلال القلعة رغم كل المصاعب التي تقف في وجهه. ولهذا الغرض استنفر كل قواته سنة 1570م وهاجم القلعة من ثلاثة أماكن في وقت واحد، واستطال هجومه هذا أياماً، ثم استطاع بهجمة خاطفة أن يحتل القلعة ويقبض على ابن الأمير وأن يأخذه معه أسيراً إلى إسطنبول. وقد قيل عنه إنه قطع رأسه في السنة التالية".


ابن الأمير

بعد ذلك يصف راوولف نجل الأمير محمد أبو ريشة فيقول: "في اليوم الخامس من أيلول ظهر بعض الأعراب في باكر الصباح على الشاطئ، وانتشر عدد كبير منهم إلى مسافات بعيدة، كما أخذنا نشاهد بعض أفواج كان الواحد منها يضمّ ما بين أربعين وخمسين فارساً، وقد استنتجنا من ذلك أن مضرب أميرهم غير بعيد عنا. وقد تأكد ذلك لنا حقاً. فحين نزلنا على البر عند الظهر أقبل أصغر أنجال الأمير ممتطياً صهوة جواد أدهم عال يحيط به رجاله وهم يبلغون المائة عداً، ومعظمهم يحملون السهام والرماح المصنوعة من القصب.

كان نجل الأمير شاباً يافعاً في حدود الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره، أسمر اللون يعتمّ بعمامة بيضاء من نسيج القطن تتدلى إحدى نهايتيها إلى الوراء بحوالي ذراع طبقاً لعادتهم في الملبس.

وكان يرتدي عباءة طويلة مصنوعة من الفرو مغطاة بالقماش وتمتدّ إلى ركبتيه، ومثل هذا كان يرتديه أفراد حاشيته بحيث كان يصعب، بهذا اللباس الشائع لديهم، تمييز أحدهم عن الآخر لو لم تكن حوافي تلك العباءات مطرزة بأشرطة ذهبية كما اعتدنا في بلادنا أن نطرز حوافي صداريات الأطفال عند الرقبة والأردان، ولم تكن أردانها طويلة وكانت بعض النقوش ظاهرة فيها".

ويضيف أن الضريبة كانت تعود إلى أمير المنطقة العربية التي يجري نهر الفرات فيها، ولذلك أقبل نجله هذا للمطالبة بتلك الضريبة وتسلمها. ويقول: "هكذا وجدناه ينزل بجواده إلى النهر ويخوض فيه متجهاً نحو السفينة التركية أولاً ليرى ما تحمله من سلع، ولما لم يجد فيها سوى القمح لم يمكث عندها طويلاً وعاد إلى سفننا.

وكان خدمه الذين يأتمرون بأوامره قد سارعوا في مساعدته على الصعود إلى السفينة وأجلسوه على حزمة فيها ثم شرعوا يتجولون بين التجار يفتشون سلعهم فيفتحون هذا الكيس وتلك الرزمة ويأخذون من بعضها قليلاً أو كثيراً حسبما يشاؤون، ولذلك كانوا يتأخرون بعض الوقت قبل أن ينتقلوا من تاجر إلى آخر. في الوقت ذاته جاء القوم بطفل نجل الأمير هذا، ولم يكن ليتجاوز السنتين، إلى ظهر السفينة، وكان أحدهم يحمله أمامه على ظهر جواد ويسير به خلف أبيه. ولم يكن الطفل ليرتدي شيئاً سوى قميص مصنوع من القطن وفي عنقه أطواق وفي رسغيه وقدميه أساور من الذهب العربي الخالص!".

ويقول الرحالة الهولندي إن خدم الأمير أقبلوا إليه ورفيقه وكانا في مؤخرة السفينة. فأعجبوا ببندقيتهم المكسوة بالعاج. وحين حملها نجل الأمير بين يديه، وسر برؤيتها سروراً بالغاً، وراح يردد قائلاً إنها من صنع بلاد الأجانب، إنها من صنع (الفرنج)، وذلك هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على أبناء البلاد الأجنبية كالفرنسيين والألمان والإيطاليين وغيرهم. ويلفت راوولف إلى أن البدو لم يكونوا يميزون بين الأوروبيين.

ويلفت راوولف النظر إلى أن نجل الأمير كان رقيقاً وأمر حاجبه بأن يتركوهما ولا يفتشوا أمتعتهما، وأخذ يطرح عليهما أسئلة عن أمور شتى، ثم التفت إلى رفيق راوولف فأنبأه بأنه يظن أن قد رآه قبلاً، وكان ذلك حقاً، إذ كان الرجل يعيش في حلب ويتعاطى صياغة الذهب فيها زمناً طويلاً، وكان هو وغيره يوفدون من لدن قنصل البندقية المقيم في حلب إلى الأمير، الذي لم يكن مكانه ليبعد كثيراً عن تلك المدينة، حاملين إليه هدايا من ذلك القنصل، وكان من بينها ثياب غالية الثمن.

وحين كان هؤلاء يفدون على الأمير يقابلون من لدنه بترحاب عظيم وكرم بالغ، ويريهم مشاهد من مختلف الألعاب. وقد يشاهدون لديه عدداً كبيراً من الجند الأقوياء الشجعان، ومن ثم يعودون منه مثقلين بكرمه، ويعدهم بتوفير الأمن واللطف لهم ولرؤسائهم. فإذا ما حدث واستعانوا به على الأتراك أقبل على مساعدتهم مخلصاً، إذ إنهم يقطعون مسافات شاسعة داخل أراضيه إلى أن يصلوا أراضي الأتراك بما فيها إسطنبول وغيرها.

ويتابع راوولف قائلاً: "كنت شديد الرغبة في أن أحظى بمقابلة أبيه وأنا أحمل بندقيتي معي، وإذ كان علينا أن نسافر عبر صحارٍ واسعة، فلربما سر بذلك، لكنني لم أجرؤ على أن أفعل ذلك أمام الجند الأتراك، واليهود والمتسولين، لأنني خشيت أن يغدروا بي ويتهموني أمام الباشا والقاضي اللذين يستطيعان إنزال العقاب بي رغم براءتي، كما اعتادا أن يفعلا ذلك إزاء الأجانب، بل حتى تجاه أبناء جلدتهم.

وما خلا ذلك فقد تذكرت أن أمير العرب حين كان معسكراً على مقربة من حلب كان بعض رجاله يفدون على المدينة كل يوم لشراء الأغذية والملابس وغيرها، وعلى إثر ذلك صدرت الأوامر في حلب تحظر بيع أية أسلحة لهم ينقلونها معهم إلى الصحراء. وبعد أن انتظرنا أصدقاءنا بعض الوقت عادوا إلينا. وقد منعنا من الذهاب إلى أي مكان في ذلك اليوم، لأن الوقت غدا متأخراً، وعلى هذا مكثنا في مواضعنا طيلة الليل".

ويذكر الرحالة الهولندي معلومة طريفة عن أن الأمير أبو ريشة كان يحكم مناطق في جنوب بلاد الشام، منها مدينة صفد في الجليل التي خسرها فترة على يد السلطان العثماني.


مقايضة

يضيف واصفاً عملية مقايضة مع أعرابيات يبعن اللبن الخاثر للمسافرين عبر النهر: "حين مضينا في سبيلنا راح الأعراب يحيوننا، ولو لم يحل البعد بيننا وبينهم لطرحنا عليهم الأسئلة، ولا سيما عن المكان الذي يقيم أميرهم فيه، إذ إنهم يولونه قدراً كبيراً من الاحترام، رغم تنقلهم وتجوالهم، فهم يظهرون له الطاعة الجماعية بشكل لا تظهره أية أمة أخرى لرؤسائها، ومن هذا نستطيع أن تتأكد أن أياً من الأجانب كان يجتاز هذه الأراضي ويحاول أن يرى أميرهم، كان يسمح له بذلك شريطة أن يرتدي مثل ملابسهم وأن يصحب أحد العرب معه ليدله على الطريق وليكون ترجماناً له، وإذ ذاك يبدون استعدادهم لإرشاده إلى الطريق الذي يسلكه للوصول إلى الأمير، ويدعونه يمر دونما مضايقة أو تفتيش حين يرون أحد أبناء جلدتهم بصحبته.

كانت نساء الأعراب تقبل علينا عادة وهنّ يحملن اللبن في صحون واسعة يعرضنه للبيع. ولذلك كثيراً ما كنا ننزل إلى البر فنأخذه منهن ونقدم لهن البسكويت لقاء ذلك بسبب حاجتهن القصوى إلى القمح، كما أن مثل هذه المقايضة تسرنا نحن بدورنا. ولقد اعتدنا أن نأكل هذا البسكويت باللبن وقت الغذاء أو العشاء.

وحين يكون اللبن أحياناً كثيفاً، أو تكون كميته قليلة لا تكفينا، نعمد إلى إضافة كمية من الماء إليه. وقد تضع الأعرابيات هذا اللبن أحياناً في أكياس من الكتان فلا يتسرب منها حيث اعتدنا أن نعلقه في السفينة مدة يومين أو ثلاثة إلى أن يتكثف ويتحول إلى خثارة، وعندئذ نستعمله مع البسكويت والبصل أوقات الفطور وأوقات العشاء".


مدينة الرقة

كتب راوولف واصفاً مدينة الرقة في ذلك الوقت: "الرقة من مدن ما بين النهرين، تقع في الصحراء العربية على نهر الفرات العظيم بين مرتفعين، ولذلك لا تستطيع أن ترى أي شيء منها قبل أن تدنو منها، وفي المدينة قلعة يقيم فيها أمير لواء تابع للسلطان العثماني وتحت إمرته ألف ومائتان من الجنود للمحافظة عليها..

والمدينة واهية البناء غير محاطة بسور، وقد شيدت بعد خراب المدينة القديمة التي كانت تقع في الجانب المرتفع منها، كما يشاهد ذلك من بقايا سور، وبعض القناطر والأعمدة القديمة، وبعض الآثار الشاخصة هناك حتى الآن، ومنها بناية عالية قديمة لا تزال محتفظة بقوتها وضخامتها، وإن كانت أجزاء كبيرة منها قد تهدمت وتحولت إلى أنقاض. ويندر أن يرى المرء مثل هذه البناية مما يوحي مظهرها بأنها ربما كانت قبلاً مقراً للملوك والعظماء.. وتقوم بين المدينتين القديمة والحالية قلعة قديمة وقوية أيضاً، فيها حامية عثمانية، إذ إنها تقع عند تخوم بلاد العرب أو فارس للدفاع عن البلاد من الخطر والغارات".

ويضيف: "ما خلا ذلك فالمدينة مهدمة وأراضيها خالية وليس فيها مكان ملائم يستطيع الأتراك أن يمارسوا فيه السباق واللعب بالعصي وغيرها، حيث غالباً ما كنت أجلس على الأسوار المتهدمة، وأنظر إليهم أثناء لعبهم.. ويعزى خراب هذه المدينة في الدرجة الأولى إلى التتر وملكهم هولاكو الذي استولى عليها سنة 1260 ميلادية، وذلك بعد مدة قصيرة من استيلائه على حلب وقلعتها بمساعدة «آجتون» ملك أرمينيا".

ويضيف: "بعد أن نزلنا هناك أقبل علينا ملتزم الجمارك ممتطياً صهوة جواده إلى الشاطئ، وطلب إلى ربان السفينة التركية أن يسلمه الأسلحة والرماح والقسي لأنها محظورة إطلاقاً. ولم نشهد مثل هذا التصرف من لدن موظفي الجمارك قبلاً، ولذلك دخل هذا الموظف مع ربان السفينة في خصام حاد، وأخذ أحدهما يهجم على الآخر بدرجة أننا لم نستطع في ذات الوقت أن نتدخل بينهما، مما أدى إلى نشوب جلبة وضوضاء.

والسبب الذي دعا ذلك الموظف إلى مثل هذا التصرف هو أن قافلتنا لم تكن متجهة إلى «ديار بكر»، المدينة التي تبعد مسيرة أربعة أيام من هناك وتقع على ضفة نهر دجلة السريع الجريان، كيما يستطيع أن يحصل منا على مقدار كبير من الرسوم يستخلصها لنفسه وحده. لكن ربان السفينة، وهو تركي، لم يكن يحمل في سفينته شيئاً سوى القمح، ولذلك لم يستطع الموظف أن يحصل منه على شيء فتركه وأقبل علينا نحن الغرباء وهو يفكر في أن يصيب منا ما يعوض به عما أصابه من خسران، وأن يخيفنا في سبيل هذه الغاية..

ولذلك أمضى الليلة في السفينة معنا ونام بيننا لأنه كان يخشى أن نبادر إلى إخفاء بعض السلع عنه، وكان في بعض الأحيان يخاطبنا بكلمات غليظة، كما كان يردد قوله «انظروا ليس مسموحاً لنا أن ندع الأجانب يجتازون هذه البلاد ولذلك فليس أمامه والحالة هذه سوى أن يقبض علينا بصفة جواسيس»، وهذا هو الأمر الذي اكتشفه دون غيره، وذلك أمر يكفي لحجز سلعنا ولإرسالنا بتهمة التجسس إلى إسطنبول لنصبح أرقاء لدى سيده السلطان الأكبر".

ويقول الرحالة الهولندي: "بعد أن استمعنا إلى حديثه الخالي من الصواب والعقل، وعرفنا محاولته خداعنا، لم نشعر بالخوف أبداً، بل أخرجنا جواز سفرنا الذي حصلنا عليه من باشا حلب وقاضيها وأريناه إياه، وإذ تطلع فيه ملياً تأكد لديه أن ليس في مقدوره أن يتصرف تصرفاً سيئاً إزاءنا، وعندئذ ابتعد عنا ساخطاً، وشرع يخاصم تجار السفينتين سوية ويطالبهم بدفع ضريبة كبيرة ضجوا بالشكوى المرة منها، لكنه استمر في مطالبته ولم يقبل بأية شروط معقولة، بل أكثر من هذا حمل مجاديف السفن معه ليحول بذلك دون سفرنا وليضغط علينا لتلبية طلبه. ومع أن التجار وجدوه مجدّاً فيما أقدم عليه، إلا أنهم لم يأبهوا به كثيراً، ولذلك بعثوا بواحد منهم في الحادي عشر من أيلول مع أحد الأعراب إلى ديار بكر حيث يقيم الباشا الكبير هناك، وهو نجل «محمد باشا» ليرفع إليه الشكوى عن هذه المضايقات والعقبات. وما إن علم موظف الجمرك بذلك حتى تعقب الرجل مع ابنه في الحال.

عاد الرسول الذي أرسلوه إلى الباشا فأخبرهم أنه غير ممتن من المعاملة الظالمة التي عاملهم الموظف بها خلافاً لأوامر وقوانين رئيسه السلطان الأكبر، ولذلك كتب الباشا إلى أمير اللواء، وأمره ـ مهدداً إياه بالإعدام ـ بأن يتخذ كل الإجراءات التي تكفل عدم احتجازنا طويلاً، وأن يقبض على موظف الجمرك ويبعث به مخفوراً إلى إسطنبول ليقدم إلى المحاكمة التي تعقد مرة واحدة كل خمسة عشر يوماً".


ارتحال الأعراب

يقول راوولف: "في الوقت الذي بقينا فيه محتجزين كالأسرى على ضفة نهر الفرات ونحن ننتظر بفارغ الصبر ساعة إطلاق سراحنا، غادر أمير البادية وحاشيته من هناك في اليوم الحادي والعشرين من أيلول متجهاً إلى الجنوب في أعداد كبيرة من رجاله، بحثاً عن مرعى أفضل لمواشيه وخيله وإبله ودوابه، يعوض به عن مكانه السابق الذي لا يوجد فيه الكثير من القرى والأسواق التي قد يقيمون فيها طويلاً.

كما أن هؤلاء الأعراب لا يرغبون في الاشتغال في الزراعة، ولا في التجارة، بل يكتفون بقدر كبير من الماشية والمزيد من الأعشاب لإطعامها والقيام بأودها. ولذلك تراهم حين يصلون إلى جدول تنمو عنده الحشائش والأدغال يسارعون إلى إقامة خيامهم على مقربة منه ويمكثون هناك إلى أن تضطرهم الحاجة إلى الرحيل والبحث عن مكان آخر غيره..

وعند الرحيل يأخذ الأعراب معهم كل رجالهم ونسائهم ومواشيهم وحاجياتهم حسبما شاهدتهم على تلك الحالة في هذا الوقت حين أقبلوا على هذه المدينة بأعداد كبيرة، الأمر الذي دفع بالأتراك إلى أن يغلقوا أبوابهم طيلة أربعة أيام، حتى انتهى مرور أولئك الأعراب بالمدينة.

وكنت أراهم وهم على ظهور الخيل مسلحين بالرماح والسيوف والقسي وغيرها. وهم يفعلون ذلك نفسه حين يمتطون ظهور الإبل التي يملكون أعداداً كبيرة منها، ولا سيما عندما ينتقل أميرهم من مكان إلى آخر كما ذكر لي ذلك البعض منهم، فقد يصل عدد تلك الإبل، بصفة عامة، إلى مائة وخمسين ألف رأس. ولقد شاهدت أنا بنفسي في إحدى المرات ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف بعير. وهذه الإبل من الحيوانات القوية الصبورة الملائمة لحمل الأثقال، إذ إنها تتحمل العطش في الحر الشديد لمدة ثلاثة أيام متوالية".

وحول خيولهم يقول: "لما كانت خيول الأعراب أصيلة ونظيفة ومناسبة للركوب، فإنه يندر أن يطعموها أكثر من مرة واحدة في اليوم، ولو أنهم يمكثون على ظهورها طيلة يوم كامل ويقطعون بها مسافات طويلة من الأرض الخلاء. والمعتاد أن يجزوا الشعر من أطرافها وذيولها فتغدو ذيولها تلك أشبه بذيل الأسد. وهم يركبون الإبل مع أطفالهم، إذ يجتمع كل ثلاثة أو أربعة منهم سوية في هوادج، كما هو مألوف في بلادنا الأوروبية".

ويذكر راوولف معلومات مهمة عن علاقة الأمير محمد أبو ريشة الذي يصفه بأنه أمير العرب مع السلطان العثماني فيقول: "قد يحدث كثيراً أن يقترب الأعراب في مسيراتهم هذه من المناطق التركية، وأن يقترب الأتراك، هم بدورهم، من المناطق العربية، ولذلك كانت تنشب بين أميرين كبيرين من الطرفين خلافات تؤدي إلى حروب دموية.

ومع ذلك وعلى الرغم من هذا كله، فقد علمت بأن التفاهم قائم بين الطرفين، إذ تم الاتفاق بينهما على أنه في حالة دخول سلطان الأتراك في حرب مع جيرانه، فإن على أمير العرب أن يهب لنجدته والدفاع عنه، وذلك لأن السلطان حين يكتب إلى أمير العرب يكتب إليه كابن عم وصديق له، ويدفع إليه ستين ألف دوقة سنوياً كمرتب أو أجرة مقطوعة".

وفضلاً عن ذلك، يبعث السلطان إلى أمير البادية الجديد، الذي يأتي في أعقاب وفاة الأمير القديم، بكسوة تحمل شارته بالإضافة إلى الهدايا الأخرى، والاحتفالات الاعتيادية، ويهنئونه بوصوله إلى العرش، ويجدد ويؤكد تحالفه معه. والأعراب، مثل الأتراك، يتزوجون بنساء كثيرة ولا تعظم الواحدة من نسائهم نفسها أمام الأخرى لأنهن منحدرات من أباء طيبين، ولذلك لا تستثني واحدة منها ـ باعتبارها من ذرية عظيمة ـ من النهوض بأعباء العائلة، ولا تخضع الفقيرة منهن إلى الأخرى لأنها تحدرت من ذرية فقيرة.

فقد كانت إحدى زوجات أمير العرب مثلاً ابنة رجل يملك معملاً للنجارة في الرقة، فهي وإن كانت من أصل وضيع إلا أنها كانت محترمة مثل بقية الزوجات، وأبوها وأخوتها من الرجال المحترمين، وقد أقبلوا إلينا وأبدوا أسفهم للأذى الذي أصابنا على يد جابي المكوس".

دلالات

المساهمون