بسّام هلسة: لسنا في الشمس ولا حتى في الظل

بسّام هلسة: لسنا في الشمس ولا حتى في الظل

30 يناير 2019
(بسّام هلسة في بورتريه لـ أنس عوض/ العربي الجديد)
+ الخط -

"لسنا في الشمس.. ولا حتى في الظلّ"، عبارةٌ كتبها الشاعر بسّام هلسة الذي رحل عن عالمنا بصمتٍ في الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر الماضي في عمّان. هذه العبارة المكتوبة في رسالة مفتوحة إلى غسّان كنفاني، بعد مرور ما يقارب أربعين عاماً على استشهاده.

يُمكن أن تكون العبارة فاتحةً، ليس للرثاء ولا للحزن ولا لاستثارة الشجن، بل لتمجيد لحظة اعتذار لهذا الشاعر الذي "كلّ ما تاق إليه هو الصفاء، كذاك الذي لغيمةٍ ساريةٍ لا يقلقها لغطُ الأرض، والطمأنينة الوادعة كتلك التي ليمام دمشق الأليف الآمن من أن أحداً لن يصطاده".

سأقول لماذا الاعتذار بعد قليل.

ولكن عليّ، بدايةً، استحضار الشاعر فيه، لأن الشاعر هو الأكثر إحساساً بتياراتِ زمنه، والأكثر رقّة حين يتعلّق الأمرُ بالتمييز بين الألوان والأعراق والمذاهب، والأدقّ تعبيراً حين يأتي زمانٌ يختلط فيه القمحُ بالزوان وتُنتحل فيه حتى الأشجار والوديان والشطآن.

في تلك الرسالة، يتذكّر الشاعر حكايةَ أولئك الذين ذهبوا بعيداً عن بلادهم، وأسلموا قيادتهم لأبي الخيزران، فماتوا اختناقاً في خزّان ماء على حدود الصحراء. ويكتب: "حينما يصير استجداءُ الحقوق والسلام مع العدو وجهةَ نظر رسمية، وحينما لا تعود فلسطينُ كلُّها هي وجهة السير، والمقاومةُ أداتها العاملة والناقلة، ليس بوسعنا أن نتساءل، كما تساءلتَ، لماذا لم يدقُّوا جدران الخزّان؟ نحن الآن ندقّ جدران قلوبنا خوفاً على مصير وطن وشعب".

ومن هو ذلك الذي لم يتوقّف عن دقّ جدران قلبه منذ أن أصبحت فلسطين هي كل لحظة؟ أو هي الزمن الماضي والحاضر والمستقبل؟ وأنا أقلّب أوراقه، أوراق شاعر بالمعنى الذي وصفت، صادفتني رسالة أخرى، وهذه المرة إلى شهيد آخر على امتداد أفقٍ يمتد في كل الاتجاهات، إلى ماجد أبو شرار.

يكتب الشاعر، بعد سنوات على رحيله أيضاً: "أمس فقط غادرتنا أو ربما أوّل أمس على أبعد تقدير. أظنّه لا يعرف شيئاً من قسّمَ الزمان إلى ماض وحاضر ومستقبل. وما أدرى الموظّفين المستغرقين في الحسابات اليومية بمناطق الوجدان، حيث لا برزخ ولا تخوم فاصلة، وحيث كل زمن هو - الآن".

هي وحدة الزمان إذاً، حيث تجتمع أطراف الأزمان كلّها في لحظة، ويفكّر الشاعر بالذاهبين والماثلين والقادمين على صعيد واحد، ليس إحساساً بالفوات فقط، بل وحنيناً إلى خلود من نوع خاص.

ما الذي يبقى من الإنسان؟ عمله بالطبع، فكلُّ ما خلا عمله باطلٌ وقبض ريح. ولذا وددت أن أتذكّر في بسام منجزه الشعري، الصور التي توزّعت في سنواته الأخيرة بين سطور مقالاته على استحياء أحياناً، وبثقة مكتومة في أحيان أخرى. لأن هذا هو ما يبقى من الإنسان؛ إحساسه الخاص بالزمن والناس والأيام.

أفكّر الآن بهذه السطور:

"ذكَّرتني بي
فانتبهتُ..
الزمان؟
كم كنتُ ساهياً حتى انتبهتُ
هو مقيمٌ
وأنا
عابرْ".

وأقرأ:

"تعرفُ ما تريده الآن
أن تخلو بنفسك
أن تغمض عينيك وتنام
تنام طويلا وبعمق
كنجمة قاصية
كبحر منسيّ متوحد
معتزل".

وأقرأ:

"وطويتَ ما كنتَ أوقدت
من وجدٍ
كما ينطوي جبلٌ قديم ناسكٌ
على أسراره.
وأيضاً:

لعلكَ نسيتَ
أنك محض خفقة ريح عابرة
في مدى لا ينتهي".

هذا هو ما أعنيه بالاعتذار؛ إننا لم نتعرّف على الشاعر في بسّام قبل رحيله، وأخذنا بما رآه في نفسه ذات يوم حين وجد قصيدةً كتبها في عام 1979 حين كان طالباً في جامعة الكويت، فكتب في عام 2008: "وجدتُها فاستعدتُ بعضاً من "الشاعر" الذي كنته آنذاك".

يفقد الإنسان "كلّ ما يبقى" حين يُتحدّث عنه بصيغة الماضي، ولا يجمع أطراف الزمن، ولا يظلّ محافظاً على رؤية الأبد في لحظة. هذه اللمحات القليلة مما قرأتُ وتصفّحتُ تشير إلى روح زاخرة بأخيلة وأشواق لم يمنحها الزمن الفلسطيني - الذي صادره سكّان مستعمرة سعيدة هناك - الفرصةَ لتتفتّح، وأغلق عليها زمنٌ عربي أكثر عتمة حتى أبواب ونوافذ المنفى. هذه الروح تستحق اعتذارنا جميعاً.

دلالات

المساهمون