أدورنو مربّياً

أدورنو مربّياً

11 يناير 2019
من محاضرة لأدورنو في روما، 1969
+ الخط -

ليست الفلسفة صناعة للمفاهيم بقدر ما هي دعوة إلى الحذر والحيطة منها. هكذا يمكن أن تُفهَم فلسفة المفكّر الألماني تيودور أدورنو (1903 - 1969). لقد طوّر صاحب كتاب "نظرية إسطيتيقية" تصوّراً عن العقلانية يسمح بالمختلف، وفي لغته بغير المتماثل (Das Nichtidentische).

منذ محاضرته الافتتاحية في مايو/ أيار 1931 والموسومة بـ"راهنية الفلسفة"، أكّد أدورنو ضرورة التخلّي عن الوهم المثالي الذي يقول بقدرة الفكر على الإحاطة بكلية الواقعي. عشر سنوات بعد ذلك، سيكتب شذرته المعروفة "الكلّي هو اللاحقيقي" رداً على فلسفة هيغل ومقولته المعروفة في "فينومينولوجيا الروح": "الحقيقي هو الكلي". فهيغل يصف في "فينومينولوجيا الروح" مراحل تطوّر العقل، صُعداً إلى العقل المطلق أو الهوية المطلقة، إلى الكلي. يوضّح أدورنو كيف أخضع هيغل في نهاية المطاف "غيرَ المتماثل"، "الخاصَّ" و"الغريبَ" للعقل المتماثل، للعام والكلي. إن العقل في طريقه المضرّج بالدم إلى الكلي يُلغي المختلف.

وقد حظي الفصل المعنون بـ"عناصر اللاسامية" من كتابه المشترك مع ماكس هوركهايمر، "جدل التنوير"، بأهمية كبيرة بالنسبة لكل فلسفة بيثقافية نقدية. إن بنية العقل تتضمّن بداخلها، كما يرى هوركهايمر وأدورنو، إمكانية اللاسامية. فالعقل المنغلق أمام المختلف وغير المتماثل ينتهي بالضرورة إلى ممارسة العنف على الموضوع الغريب. سيؤكد المؤلّفان في كتابهما ما سبق وأكّده فالتر بنيامين من أن التقدُّم هو العود الأبدي للكارثة.

يقول سؤال "جدل التنوير": لماذا يمتلك مفهوم التنوير هذه البنية الجدلية، والتي عبرها تُربط فكرة تقدُّم البشرية مباشرةً بالكارثة؟ إن صورة التقدُّم المستمر لتاريخ البشر، والتي تميّز فكرة التنوير، سيتم فضحها بشكل راديكالي في "جدل التنوير"، انطلاقاً من الفلسفة التاريخية السلبية لفالتر بنيامين. إن آوشفيتز تمثّل قطيعة نهائية في وعي التنوير الأوروبي. في العام الأخير من حياته، كتب بنيامين مقاله "في مفهوم التاريخ"، في لحظة تاريخية حاسمة، سيفقد فيها الأمل، خصوصاً بعد توقيع الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية لميثاق عدم الاعتداء (1939)، وفي ذلك المقال سيتحدث عن ملاك التاريخ انطلاقاً من لوحة شهيرة لبول كلي تحمل اسم أنجيلوس نوفوس.

في الأطروحة التاسعة من مقاله "حول مفهوم التاريخ"، يكتب بنيامين: "هناك صورة لبول كلي إسمها أنجلوس نوفوس (الملاك الجديد). إنها تصوّر ملاكاً يبدو كما لو أنه يستعد للابتعاد عن شيء ما، وهو يحدّق به. أعينه مفتوحة عن آخرها، فاغراً فاه ومفرداً جناحيه. يتوجب على ملاك التاريخ أن يكون على هذه الصورة. لقد ولى وجهه باتجاه الماضي. وحيث تظهر لنا سلسلة من الأحداث، لا يلمح هو سوى كارثة واحدة وحيدة، تجمع في طريقها، وبلا توقف، الأنقاض وراء الأنقاض وتقذف بها أمام أقدامه. يحبذ لو يتريث قليلاً ليوقظ الموتى ويجمع قطع الحطام. لكن عاصفة تهب من الجنة، لتلتصق بجناحيه، حتى أنه يعجز، بسبب قوتها، عن أن يطويهما من جديد. تدفعه العاصفة بلا توقف نحو المستقبل الذي يوليه ظهره، بينما ترتفع كومة من الحطام أمامه صوب السماء. هذه العاصفة هي ما نسمّيه التقدم".

وفي نقده لمفهوم التقدم، ينتقد بنيامين التيار التاريخاني الذي أسّس لعلم التاريخ. ينتقد رغبة هذا التيار في تأسيس نظرية لتاريخ شامل للإنسانية، يرتبط بقوانين وسنن عامة، في محاكاة لمنهجية العلوم الطبيعية في القرن الثامن عشر. وبعبارة أخرى، ينتقد التصوّر الخطي للزمن ومركزية فكرة التقدم في التاريخ. ويرى أن الفكر التاريخاني في إعلائه لمفهوم التقدم، لا يلقي بالاً لكل تلك المظالم، بل إنه يبررها باعتبارها ثمناً للتقدم أو ضرورة لا مناص منها.

لقد انتبه بنيامين إلى الوجه المظلم لفكرة التقدّم منذ أول نص له، كتبه خلال دراسته وهو في سن الثانية والعشرين، سنة 1914، معبراً عن رفضه لفكرة التقدم المستمر داخل الحداثة. يكتب في هذا النص الموسوم بـ"حياة الطلاب" قائلاً: "إن هناك تصوراً للتاريخ، في ثقته بلانهائية الزمن، لا يفرّق إلا بين إيقاع البشر والحقب، والذين يتحركون في سرعة أو بطء على مسار التقدم". إن الأمر يتعلق لدى بنيامين بنقد راديكالي للعقل التاريخي، ولأفكار من قبيل الاستمراية والسببية والتقدم، وللتصور المتفائل عن التاريخ. نلتقي مثل هذا التصوّر في الثيوديسا للايبنيتز، المحكومة بفكرة الخلاص المسيحية، والتي ترى أننا نعيش في أفضل العوالم وأن التاريخ يقودنا إلى العدالة النهائية. ونلتقي التصوّر نفسه طبعاً عند هيغل في "فلسفة التاريخ"، باعتباره تقدماً للوعي بالحرية.

سيقوم هوركهايمر وأدورنو، واللذان يتقاسمان التصوّر السلبي نفسه عن التطوّر التاريخي، باستثمار عناصر في فلسفة التاريخ لفالتر بنيامين في سياق نقدهما للعقل. إن تطوّر البشرية، والمتمثل في انفصالها عن الطبيعة عبر التفكير، وتنظيمها للعالم في نسق مفاهيمي، إن هذه السيطرة على الطبيعة، ستمس الطبيعة الداخلية للبشر أنفسهم. إذ يتوجب، في نهاية المطاف، إخضاع هذه الطبيعة الداخلية أيضاً للمفهوم، وفي هذا السياق، يعيش الإنسان في خوف مستمر من أن يسقط مرة أخرى في الطبيعة ويفقد حريته المزعومة. وفي هذا التصوّر، تتحول الطبيعة الخارجية وفي النهاية الطبيعة نفسها إلى عدو للإنسان، إذ من أجل المحافظة على نفسه، سيعمد الإنسان بمساعدة العقل، إلى قمع طبيعته الداخلية والخارجية.

إن التنوير، والذي أراد لنفسه أن يكون تحريراً للبشر من إكراهات الطبيعة، سيقود لا ريب إلى قمعها. فالإنسان لا يمكنه التحرّر من إكراهات الطبيعة لأن عقله يمثل لحظة من لحظاتها. فهذا التنوير الذي طلب تحقيق الحرية الإنسانية، يتصرف، كما نقرأ في "جدل التنوير": "إزاء الأشياء، تصرف الديكتاتور إزاء البشر". وبمساعدة العقل كوسيلة للتنوير، سيتم إخضاع المواضيع لأنساق مفهومية، وتجريدها من خصوصيتها وتعددها. إن جدل التنوير يؤكد زواج الحرية والهيمنة في العقل الغربي، إنه، كما كتب أدورنو في شذراته حول فاغنر، يمثل "وحدة الهيمنة على الطبيعة واندحار هذه الطبيعة في الآن نفسه".

إن جوهر العقل محكوم إذن بجدل تحرّر الذات وتدمير الطبيعة المرافق له. إن الجدل يشير إلى التدمير الذاتي للعقل، بما أن العقل في النهاية هو جزء من هذه الطبيعة. هذا التدمير الذاتي سيجد تحققه الأمثل في الفاشية. ففكرة التنوير لا يمكن فصلها عن سياسة إقصاء الأقليات.

فالذات المتماثلة مع نفسها، تقمع كل ما يقف على النقيض من هذه الهوية، أي كل ما هو خاص وغريب وغير متماثل. إن فكرة غير المتماثل تمتلك دلالة مركزية في فلسفة أدورنو، إذ في ذلك الفصل الذي يقيمه العقل بين الذات والموضوع، تتكلس الهوية ذاتها، وتصبح عاجزة عن تجربة الاختلاف. وإذا ما أضحت الذات عاجزة عن الانفتاح على تجربة الغريب، واكتفت بإعادة إنتاج نفسها كذات متماثلة، وما يمثله ذلك من إضفاء للطابع المطلق على العقل، فإن ذلك سيقود لا ريب إلى اللاعقلانية.

من جهة أخرى، تجدر الإشارة أيضاً إلى العلاقة الوطيدة بين نقد العقل ونقد المجتمع عند أدورنو. فبالنسبة له، فإن "نقد المجتمع هو نقد للمعرفة والعكس صحيح"، وفكر الهوية الذي ينتقده في "جدل التنوير"، ومبدأ التبادل الاجتماعي، يمتلكان "سواسية بنيوية". إن مبدأ التبادل يعني تجرداً عن المميزات النوعية للمنتجين والمستهلكين، فعبر ذلك يتحوّل الأفراد إلى فاعلين في مجال تبادل البضائع، ويتم عبر ذلك اختزال خصوصيتهم في هوية قيمة التبادل المجردة.

إن الهيمنة الاجتماعية لتبادل البضائع هو الذي سيشكل صورة البراكسيس الانساني، وما سيسميه أدورنو بالتشيّؤ. بل حتى قوة العمل الإنسانية سيخترقها مبدأ التبادل، لتتحول بدورها إلى بضاعة، تباع وتشترى، وإلى عنوان لاستغلال الإنسان للإنسان، إذ كما بيّن ماركس في كتاب "رأس المال"، في معرض حديثه عن قيمة الربح، فإن التبادل التجاري لا يؤدي إلى الربح، وإنما يأتي الربح من قيمة تعب العامل. وضّح أدورنو في "الجدل السلبي" Negative Dialektik العلاقة بين مبدأ التماثل العقلاني ومبدأ التبادل الاجتماعي، مؤكداً أن عملية اختزال العمل الإنساني في المفهوم العام والمجرد عن متوسط وقت العمل اليومي، شبيه بمبدأ التماثل، إنه يسرق فردية الإنسان. لكن ما الذي يعنيه أدورنو بدءاً بالجدل السلبي؟ إن اسمه، يقول أدورنو، "لا يقول أولاً شيئاً آخر سوى أن المواضيع لا تختزل في مفهومها وأنها تقف على النقيض من معيار المطابقة المتعارف عليه". فالمفاهيم التي نملكها غير كافية للإحاطة بالمواضيع في تعقيدها.

يضيف أن التفكير تحديد لهوية، ففعل تحديد الهوية يعني تنظيم المواضيع في مفاهيم بمساعدة العقل. ويتضمن ذلك بالضرورة تجرداً من خصال الموضوع والتي لن يشملها مفهومنا عنها.

لنأخذ مثلاً الموضوع: مكتب. إننا نتوفر على مفهوم معين عن المكتب، وإذا ما أبصرنا شيئاً شبيهاً بالمكتب فسنسميه مكتباً، أي سنحدد هويته كمكتب، لكن الخاصيات الأخرى المرتبطة بهذا المكتب دون غيره، بمكتب اشتريته في العام كذا وكذا، وكتبت عليه هذه المحاضرة، وحملته في سنوات تنقلي من مدينة لأخرى، والذي كثيراً ما استعملته كطاولة للطعام أيضاً، وتقادم لونه حتى امحى إلخ.. إن مفهوم المكتب المجرد لن يدرك كل هذه الخصائص ولن يعيرها انتباهاً.

إن فكر تحديد الهوية وحده من يخطئ الطريق إلى هوية الموضوع، فهو لا يفعل أكثر من إسقاط معناه على الآخرين، إن لم يحرمهم أحياناً من أي معنى خاص بهم. إن فكر الهوية عنف. وقد نضيف إلى ما يقوله أدورنو، بعداً آخر من أبعاد هذا العنف الرمزي، إنه يعطّل زمانية الموضوع، لأنه يريده هوية لا حدثاً، وعبر ذلك يعطل التجربة. فهو إعادة إنتاج مستمرة ومتماثلة لفعل الأنا المفكرة.

وهذا ما جعل أدورنو رغم إشادته بهيغل، ينتقد مفهومه عن الجدل والذي يرى أن كل فكرة أو حقيقة تتغير وتحمل بذرة تغيرها بداخلها، وأن العلاقة بين كل نقيضين تؤدي لنشوء تركيب أعلى من الفكرة ونقيضها ليصل في نهاية هذا الجدل إلى التركيب الأعلى المتمثل في الروح المطلق والذي بداخله تتلاشى المتناقضات في هوية محضة، وعبر ذلك ينفصل الروح المحض والمطلق عن الموضوع، وعبر ذلك عن المضمون.

ينطلق أدورنو من أولوية الموضوع، في حين ينتهي فيه غير المتماثل إلى هوية محضة لدى هيغل، ليؤكد، كما في "فينومينولوجيا الروح"، أن الحقيقي هو الكلي. وفي محاضراته حول تاريخ الفلسفة أيضاً، سينتهي "التقدم في وعي الحرية" في النهاية إلى روح العالم المطلقة. ولا عجب أن يصف أدورنو، بالنظر إلى الكوارث التاريخية للرأسمالية، فكرة التقدم بالفكرة الكلبية، وينعت فلسفة هيغل عن التطور التاريخي تجاه روح العالم المطلق باعتبار أنها فلسفة كانت متصالحة مع المجتمع البورجوازي، كتعبير عن "سياق العماء الكوني"، وعوضاً عن الروح المطلقة سيحدثنا أدورنو عن الألم المطلق، ذلك الألم الذي ظل العقل يكبته في الأعماق.

اعتبر الفيلسوف السويسري إيميل آرنغين في كتابه "تحدي السلبي"، أن أدورنو من أهم الفلاسفة الذين وضعوا السلبي في قلب فلسفتهم، معتبراً أن أدورنو يذكرنا بمقولة عالم الاجتماع غيورغ زيمل : "إنه من المدهش كيف سكت تاريخ الفلسفة عن الألم الإنساني". وانطلاقاً من زيمل، سيكتب أدورنو في "الجدل السلبي": عن أن "الحاجة في أن نترك الألم يتكلم، شرط الحقيقة". يقف أدورنو بذلك على النقيض من التيار الغالب في الفلسفة، الذي كان يرى المبدأ الأسمى للفلسفة في الخير مع أفلاطون، والمهمة الأساسية في مصالحة الإنسان مع العالم لدى هيغل. لكن قبل أدورنو سيقف شوبنهاور ضد هذا التفاؤل الميتافيزيقي، مؤكداً أننا لا نعيش في أفضل العوالم كما اعتقد لايبنيتز، بل في "أسوأ العوالم الممكنة".

أما نيتشه فسيذهب خطوة أبعد وهو يؤكد في "جينالوجيا الأخلاق" أن المشكلة لا تكمن في الألم بحد ذاته، ولكن في غياب جواب عن سؤال: لم الألم؟ أما المثال الزهدي، فهو لم يقدم في رأيه سوى جواب مزيف، سيجعل الإنسان يكتفي بالأكذوبة، لأنه يخاف الحقيقة. لكن ما يهمنا هنا هو تأكيد إيميل آنغيرن بأن الألم يتطلب التأويل، وأن علاقة الإنسان بالألم تظل علاقة تأويلية بامتياز، قد تهدف إلى تجاوز الألم كما قد تعمل على مصالحتنا معه وإقناعنا بالاعتراف به كمحدد من محددات شرطنا الإنساني، وقد يدفعنا التأويل أيضاً إلى كبت الألم بشكل عقلاني أو إلى السقوط في اليأس. إن التأويل هبة الألم، ولكن لا يتوجب علينا في هذا السياق، أن نكتفي بالألم ولا أن نكتفي بالتأويل، بل أن نحوّلهما، كما يفعل أدورنو، إلى نقد. متألماً فقط، لا متأملاً، يبدأ الفيلسوف.

وحتى نعود إلى سؤال الهوية، يتوجب التأكيد أن مفهوم اللاهوية (Die Nicht-Identität) يمتلك دلالة مركزية بالنسبة لتصوّر أدورنو عن الجدل السلبي، ويعبد الطريق إلى فلسفة الاختلاف. وفي تفسيره لغير المتماثل، يكتب أدورنو: "إن غير المتماثل هو هوية الشيء ضد عمليات تحديد هويته".

وهو تعريفٌ لا ريب يُدين كلّ تلك السرديات التي أنتجتها الحداثة حول الثقافات المختلفة، وخصوصاً في خطّها الهيغلي واليعقوبي. وفي نهاية "الجدل السلبي"، سنقف على فكرة الآخر، حين يتحدّث أدورنو عن "صمود الآخر ضد الهوية"، وهي عبارة تذكّرنا بالصمود الإيتيقي للوجه لدى ليفيناس. فأدورنو يدعو إلى القبول بالآخر في التفكير، ولا ريب أن مثل هذا التفكير الجديد سيتحرّر من إكراهات الهوية داخل الفلسفة الغربية، ليصبح فعل التفكير فعل ضيافة، او في لغة شخصانية: خروجا من الذات. وحتى نقول ذلك في لغة إيتيقية، فإن العقل في اعترافه بعجزه عن اختزال العالم في المفهوم، يعترف بضعفه. إن الضعف هوية العقل.

المساهمون