ألف سوسنة 2-2

ألف سوسنة 2-2

11 سبتمبر 2018
هيرناندو رويز أوكامبو/ كولومبيا
+ الخط -

3

الجذور تغمر التربة اللينة، فإلى أين نحن ذاهبون؟ شعرتُ فجأةً بالجوع. بعينين هلاميتين، ظننتني رأيتُ وميض شجرة تين حيث كانت الكرسي. وريقات لا يدانيها الريب. شجرة تين وحيدة في منتصفِ القليلِ جداً من كلّ شيء. تلألأتْ في المدى المخضلّ. لم يكن موسم التين قد حان بعد، والأوراق تحيط بها. رفرفت وحسب. الطقس رطب وحار، ضقتُ بسكوت الشجرة المتنامي، تكتّمها أكثر طراوة من أن ترشح. التينة، قال ’أدْ‘: تكاد التينة أن تكون فوق رؤوسنا، كبيرة للغاية، وحيث أننا تورطنا في الأمر، تابعنا المسير.

بلغْنا ما وراءها، هناك انتصب ثور مربوط إليها. حلَّ تاش رباطه بهدوء. ثور السُّخْرة. ثبّت أنظاره بجذع الشجرة ولم يتزحزح. كان منسجماً مع تكوينه، بنيّ وبطيء الحركة. الهواء مشبعٌ بالرحيق. كان الثور معنا، جموده يبتلع جناحيَّ وحماستهما. شعرتُ بـ ’أد‘ يستند عليّ. وفي حين شعرتُ بانقباض صدري، سمعتُ ’أدْ‘ يقول: والآن ستدعوك الحاجة إلى روحك. تزحزح تاش قليلاً. مثل قطعة كبيرة من شيء متدحرج ما، صافياً كالسماء، وبدأ يمشي باتجاه الثور. دون أن يوليه التفاتاً، تقدم نحوه بصمت. لحظةَ انتبهتُ إلى أنه يصبح أقربَ إليه، بدأ الثور يبتعد. ليس بسرعة، لكن بالقدر الذي يستغرقه حجر حتى يصبح أملس. ليس بشكل مفاجئ، بل مُبعداً نفسه عن تاش. خفَّ ثِقَلُ ’أدْ‘ عنّي ونظرتُ إلى تاش حيث وقف في المكان الذي تركه الثور. قلتُ في سرّي: إني أتنفس.

ثم وقع تاش. وقع بعد تحويل الثور إلى أخضرَ، وقَعَ. شيء ما ليس كما يجب. تقاطعت عنقه الزرقاء مع كتلة طينية سوداء برزت في الجو الشفيف. ليبقى في الطين الجديد. لن يقسو تاش ولن يلين. كانت أوراق التين فوقنا رطبة. لم يكن المكانَ الأمثل بالنسبة إليه كي ينضج. عبرناه، استدعيناه من قشرة بذرةٍ وقع فيها. لكن تاش بقي هامداً ويرمش بعينيه. ليس من شيء عادي يمكن أن يرفعَه إلى أعلى. لا بد أن من أتاه كان صغيراً ذا قوة خفية، أحداً لا يمكن لشيء سيء أن يمسّ عظامه وجلده. فقط وداعة كهذه يمكنها رفْعه، وكأنه سقف بيت العائلة.

في الظلّ المحتدم. تعلو نافورة رمادية بالقرب منّا تشيلُ سماءً عاصفة خضراء. تاش تحتها، قرب حافة القرص الأسود المنكسر المقتطَع من الضوء المتلوّي. كما في نهارات كهذه حين يحوم القلب فلا يعلو ولا يقع، هكذا حامتْ كلّ الأشياء المجنحة، فلا يحلّق منها شيء ولا يهوي. سمعتُ جلبةَ أجنحتها، كما صوت الماء. الصوتُ بكليّته أغنية. أرخيتُ شَعري وفضضتُ مجازاتِ السماء. كان خفقها العابر في صحائف، مثل نسيجٍ موشّى من ومضٍ تبدّى عبْرَ تاجِ الشجرة الكبيرة. وما بين الجدائل المضببة والبقع مرّتِ الملائكة بالشجرة وعرّتها من وريقاتها التي شكلت هالات الأيدي المتوسّلة.

من ورائها تداعى الضوء الكئيب علينا، باحثاً عن شيء ما يستنبته. أصاب رأس ’أدْ‘. كانت الطريقة الوحيدة لتشكيل زهرة في طينٍ بلا بذار هي أن تشعل ناراً. نار في الطين تكون عوناً لـ تاش. نار في رأس ’أدْ‘. الجذور التي كانت ساقيّ ’أدْ‘. الجذع الذي كان عموده الفقري. الزهرة التي كانت رأسه مثل مشعل تأجج بأقصى طاقته فوق الوحل. وريقات كلامٍ يابسة تلوّتْ إلى ألسنة لهب. ترك ’أدْ‘ الضوءَ ينثال عن جذعه ليملأ وريقاته وجذوره فأصبح هشاً ويابساً. قصفَ كسراتٍ منه لإذكاء النار، ململماً إياها على شكل كومة. بدأ نحل أحمر يتجمع حوله وأصبح سربُه لسانَ لهب.

شبّت ذؤابات النار متلاحمةً، واحدة الاتجاه. زهرة تركت كلَّ شيء يمرّ من خلالها. أغنية ترددت عبْرَ البتلات، دانية، تُعيد إنشاد النار عن طريق الدخان. ما جلبته الغيوم، متدحرجاً نحونا، كان ابنةَ صوتٍ. يداها تنزّلتا من سحابة دخان فوق النار فأحاطتا تاش. استطعتُ أن أسمعها. رفعتْ تاش وأدخلته السحابة. تألّقَ ’أدْ‘ تحت ما كان يُسمى شجرة التين. استطعتُ فقط أن أتبيّن طائراً يعبر في المدى البعيد. هناك كانت مرة أخرى تُوَسّدُ صيغةَ تاش الهامدةَ إلى التشكيل ذاته الذي أُرغم عليه في الطين. تناولتْ ابنةُ الصوتِ جمرةً متوهجة من النار ووضعتها بين شفتيّ تاش. وعلى حين غرة انفرطتْ ألسنة اللهب إلى نحلٍ أحمر مرة أخرى.

كان تاش متيقظاً، وكل البوابات قد انفتحت. حين استدرنا، استطعنا التأكد من أن سور الغابة أمامنا. كانت الغشاوة التي حجبته قد انزاحت عن جُلِّ أطرافه.

تبدد ’أدْ‘ في الجرف الأخضر، والطيور الكبيرة التي لم تكن أكثر من صور ظليّةٍ قاتمة فرّت عن سفحه. تاش هو الآخر، توارى أمامنا بين الأشجار. أما أنا فتخلّفتُ لوهلة، لأستوعبَ ارتفاعه وشبكة دواخله الكثيفة. سيتعيّن علينا دخوله وتسلّق مرتفعَه الذي امتدّ في القمة. سيكون الأمرُ كمن يُجري مشطاً في نومٍ رطبٍ ظليم، برج أخضر بلا منافذ حفلَ بالألياف الزاهية. استطعتُ سماع نداء ’أدْ‘ يرتدّ إليَّ. أعدتُ رْبطَ شعري، غطيتُه بمنديل أبيض، وقد أدليتُ رأسي، وتوغلتُ في الأدغال.


4

لم أستطع تبيّن تاش، لكن ’أد‘ كان في المقدمة، متألقاً في الظل على غير العادة. وبدرايتي بالاختباء، أصغيتُ إلى أزيز يأتي عبر المعبَر. خشخشة مكتومة بين ثنياتٍ تعلو دهاليز طويلة مغطاة تفوح بالعطر وتنجدل صاعدة سفح السلسلة الجبلية. لكن لم يكن ثمة ما هو ناءٍ ههنا، فبوسعي أن أرى تاش الآن، أو بالأحرى أن ألحظَ بين الفينة والأخرى قوامه الأسود يتحرك للأمام. كان هناك فقط انتظام الأنفاس، حاضر الآن هنا، في الجهة اليمنى من صدري. وسط الأزهار والكروم والجداول التي يتصل كلّ منها بالآخر، استغلقَ العالم الساكن على نفسه بإحكام، أتنفس من خلال’أدْ‘ وهو يقفز بخفة فوق فجوات الأرض، يستهلك الهواء النقي الشحيح، كان شبحه الهزيل يخلف صفيره وراءه متلوّياً أمامي كالفتيل، كسلّم إيقاعٍ ضمَّ كلَّ ما قد صفره وصفرَ عبره وكلّ شيء دونَه كان حزماً من دخان. ناورتُ عابرةً إياه كي أصل إلى تاش.

كانت الغابة جسراً أخضر أثناء ارتقائنا. هطل مطرُ رذاذٍ بين الأشجار فوقنا ثم على شكل ملاءات انطرحتْ على الجبال. لكن ذلك كان محض شعور. ومع دُنوّي من تاش، رأيته يضع شيئاً ما في فمه، يلوكُه، ثم يبصقه على أيكة دوالٍ صفراء الزهر قرب قدميه. لوهلة لاحت لي مثل حرباء.

تذمّر ’أدْ‘ من الأمطار ومن تقلب الطقس. شهيق. كيف اسّاقطت فوقنا بشكل غير مباشر، مُحلّاةً بالأوراق. نسمع خرير المياه فوق الصخور التي مسّها طائر بين الأغصان الداكنة. كلّ ذلك مجرد طحالب الآن. بات الطريق أكثر عسراً وقد أوشكنا على نهايات دروب متشابكة لا يمكن المضيّ فيها. نتجمع في أماكن مظللة، تغلّقتْ بالهواء الساكن، والندى ما دون الشفيف. حِلية تكتسي بلون ما يجاورها. نظرتُ إلى درع سلحفاة ضخمة وردّاً على ذلك ترقرت البركة. حضن تاش كتلَ النبات التي أعاقت طريقنا، ملْء الأذرع من عرائش الكروم وحطام الأغصان. فضّلَ وصلات الطرق الفرعية والمعابر الفسيحة. تصاعد البخار من كلّ جسم ضارب إلى البنيّ كان قد انكشف أمامناً، فدلق حشراتٍ سوداء ستلوذ بملجأ آخر. التفّ تاش وأزال ما يعيق الطريق، ليجد بهدوء منفذاً لنا جميعاً. زفير. التفتُّ إلى أحد جانبيَّ لأرى طائرَ طوقان ذا منقار خفيف الزرقة يجثم فوق غصن منخفض. لم أكن كذلك. كان كلُّ أخضر فوق آخر فوق أخضر آخر فوق المزيد. مرتبة بحسب الفئة- واحد، اثنان، ثلاثة خضراء متباينة الدرجة- الحواشي سالتْ معاً بكلّ ما أوتيتْ من الخضرة، بكلّ النماء. اندلق الماء من وعاء الريّ الشمسي فنضحناه.

الماء المتساقط، الأبيض في ديمومته، بدا أنه آخذ في الهبوط. شققنا طريقنا بمحاذاة المسارات الجبلية الخضراء الرطبة وبين ضفافه. غمرَ ’أدْ‘ راحته في الماء حتى امتلأت ورشق وجهه. "انظروا، واحدات القرن،" قال وهو يشير إلى سبلات من الأزهار البيضاء ترتفع مثل القرون في ضباب الماء قرب تاش. تاش الذي تابع التسلق دون أن ينظر إليهم، فيما يبدو أنه ينوء تحت ثقل منحدر التلّ على كتفيه، يعتله بأكمله. "هل سنمضي أبعد من ذلك بكثير؟" تساءلتُ، وأنا أتنشق الهواء قرب كاحله على سبيل التخفيف من حدة الحالة. لم يبالِ تاش بجلمود الصخر.

سرعان ما تحولت الدروب إلى سطوح صخرية يتزايد انحدارها. تهادى الأخضر فوقنا، شمخ كندٍّ لنا، طوّقنا بإحكام رغم أنه راسخ في الأسفل. رنونا إلى قمة من الأوراق والصخور تخللتْها أشعة ضوء. انتصبنا بشكل كاد يكون عمودياً،’أدْ‘ وتاش على قدميهما يتبعان أثر قدميّ وعصاي عبر الرذاذ المتساقط وجحافل البعوض التي تطير قرب الصخرة. كان من الصعب أن يقدّر المرء المسافةَ التي تسلقناها، لكن ونحن نرتقي مضيق الصخرة، كنا كلما قاربْنا الضوءَ في الأعلى أكثر، كلما خبا أكثر. تكرّسَ السأم من تكثيف الانتباه والتوازن الآن، لكن بدا لنا، ونحن نقترب من موضع يمكن فيه الشعور بمضيّ النهار، أن النهار قد قصرَ. مع ذلك، حتى بعد حينٍ بقي الإحساس بكتلة زمن صماء واحدة على جانب الجرف إلى تمام اللحظة التي لُفِظنا بها إلى صخور المعبر الجبلي العارية عند الغسق. كان النهار الشبيه بذيل السنونو قد حطَّ وحيداً، من دوننا، على ظلال المعبر الخشنة النقية.

مثل أزهار القرع الذي امتدّ بضع أقدام من أعالي الغابة، كنا متطفلين هنا، ولن يكون بمقدورنا التحكم في ذلك. تركنا للهواء الرخيّ أن يمرّ فوقنا. لم نتابع السير ذلك اليوم، بل توقفنا لنمضي الليل. لا مزيد. كان مخيمنا بسيطاً. عششنا في مأوىً تشكّلَ من صخرة كبيرة ناتئة. الأرز المغلي مع الفاصولياء الحمراء هو طبق الثعالب المفضل. مال ’أدْ‘ للأمام ومسَّ وجهي. كانت الحمى التي عانيتُ منها في طور التراجع، هدهدني صوت الهواء فوق الصخور، وصار يمكنني أن أخلد للراحة. ارتفع جسد تاش وهبط ببطء تحت رؤوس أصابعي. قال ’أدْ‘ إننا كنا أزهاراً، نتشبث في أرضِ صدعٍ ثم نزهر.


5

كان جلّ النهار التالي قد انقضى بالخوض في المعبر. وكانت الأرض غير المستوية صالحة للسير البطيء إلى أن بلغنا بداية المنحدر العشبيّ قرابةَ منتصف الظهيرة. غير أن السماء كانت فسيحةً وكنا لم نزل مفعمين بالمعنويات العالية عندما وقعت أنظارنا على البيت في الأسفل.

كانت السلسلةُ القصيّة للوادي الذي أرسلْنا أبصارنا عبره حافّةَ امتداد أزرق يزحف صاعداً باتجاه المدى الرمادي. حين أخفضنا أبصارنا إلى مسافة أقرب، تكللتْ بالاخضرار للعشب الطويل الذي سمَقَ أكثر نضارة مع بلوغه السهل واشتبك بالأشجار التي لاحت من مرتَفَعِنا مثل انفجارات آلاف العناصر الخضراء الأكثر قتامة. استمر هذا العشب الأخضر في تكاثفه إلى جهتنا من الوادي، وإن كان أكثر تشتتاً، ليجعل البقاع المكشوفة في الأرض البنية القاتمة أكثر لفتاً للنظر، وعلى نحو ما أكثر جاذبية لنا. لحظةَ نزلنا عن صخرة المعبر داخلين هذا الامتداد البنيّ الغنيّ، رأينا البيت الأصفر وبدأنا السير إلى حيث استطعنا، حتى عن بُعد، رؤية ما كان الجمال المكتمل بكلّ حدائقه.

وأما عن أناقة وبساطة المنزل الأصفر، فقد كان يأتزر بحقل فسيح من الأزهار الزرقاء أو الأرجوانية، بالإضافة إلى باحة تحتوي تشكيلاً حجرياً صغيراً لكنه عالٍ في وسطها. انحدرنا بين الأعشاب الطويلة صوب البيت، ذاك البيت الذي يعود لأحد ما. وإلى الأمام قليلاً ثمة أرض مغطاة. شعشع الوادي بحرارة متواصلة غير أن أحوال الريح كانت تحدّ منها باستمرار في الاتجاه الذي سلكناه إلى حقل الأزهار. كان سوسناً، ما يقارب الألف سوسنة، كما يمكن أن نرى الآن.

كان تاش متيقظاً، حفلَ الجو بصفير السهام. هل هناك أشباح؟ تساءلتُ، وشعرتُ فجأةً بأني تحت الخطر. أردتُ الاختباء في ظلال تاش. كان تاش شارة رتبة الـ V، عارضةً. يمكن لـ تاش أن يكون عموداً للإرشاد إلى الاتجاه. مشى تحت شيء ما قاصداً شيئاً ما وسط السوسنات. أجساد طفلين، وبنت في السابعة أو الثامنة وصبي في الرابعة، جميعهم موتى بين سويقات الأزهار. كانوا قد قتلوا حديثاً، منذ دقائق، ساعة أو ساعتين على الأكثر. مع ذلك لا يزال السكون مخيماً الآن. بدوا عالقين بالسوسن بشكل غير قابل للانفكاك، الشَّعر منتصب كشعيرات الفرشاة. "نوم الأصول،" كما قال ’أدْ‘ فيما بعد.

نقَّلَ تاش جرمه فمادَ الجبل. بهدوء كنا نطوف حول البيت. وصلنا فناءَه الجانبيّ. كلّ شيء هنا كان حاراً بفعل الشمس. كان التشكيل الذي استقرّ في الفناء ملاكاً حجرياًصغيراً. جثم فوق نافورة. كما نرى الآن. انحنيتُ لألتقط كوز ذرة تبيّن أنه موزة نقرتها الطيور بخشونة، فوجدتُ جثة رجل. كانت حنجرته هو الآخر قد اقتُطعتْ. استلقى بين الملاك وبين شجرة البوغنفيليا (الجهنمية) المتسلقة التي أحاطت بالفناء. لا بد أن بعض القتال قد وقع، فقميصه كان ممزقاً ووجهه يحفل بالخدوش. لوهلة بدا الملاك الحجري طيراً جارحاً يمدّ مخالبه، قبل أن تُحْيي الشمسُ والصوت والماء فيه الصمتَ الحميم لوجود مستتر. قد ذهب الجميع، وعلى نحو ما كنا موقنين بذلك. تحت جناحي الملاك، وحده السكون قد أزهر. قطّاع الطرق، أو فلتكن صفتهم ما تكون، كانوا ظلَّ غمامةٍ تُظلم ببطء ثم تعبر. لم نزل عاجزين عن وعي ما حدث.

ثم وجدناها. نادانا تاش لأن نصعد إلى الطابق الثاني من المنزل. كان قد بات في الداخل وكان صوته قد كُتم. على الأرضية الخشبية عسلية اللون لغرفة مفتوحة، استلقت ساكنةً في ضوء النافذة الكبيرة، التي فُتحتْ فندتْ ريحُها بصفير السهام التي سمعناها قبل قليل. كانت حزينة الجمال. أسبغتْ عليها شمسُ الظهيرة جناحيّ فراشة.

بالكاد أخذوا شيئاً. فكل شيء كان في موضعه إلى درجة غريبة. لم تكن هناك من طريقة يتكهن المرء من خلالها بنوع الترتيب الذي قُتلتْ به العائلة. كانوا مجتمعين، سعداء، حتى الآن. بطريقة ما بقوا أعلى من ميتاتهم. نعي ذلك الآن. فرَّ القتلة مذعورين لتلك السعادة. حلّتْ عليهم اللعنة الأبدية وما قبضوا سوى الريح. كانت سكاكينهم قد جرّحتِ الطيور وألقتها إلى الطين.

دفنّا الجثث الأربع معاً أمام المنزل قبيل الغروب. أكلنا دراقاً ولفائف بذور خشخاش وجدناها في المطبخ. تاش وأنا نمنا في حقل السوسن. أراد ’أدْ‘ البقاء على مقربة من القبور خلال الليل. غادرناه وهو يغني لها بلطف. وبينما استلقينا وسط سويقات السوسن، تدفقت أغنية ’أدْ‘ باتجاهنا نائيةً واهنة. نمنا دون خوف، فقد وقع العنف في هذا المكان وانقضى. تركت شمعة مشتعلة قرب نافذة الطابق الثاني حيث وجدنا المرأة. اكتست الشعلةُ بأغطية من الظلال كي تُشيحَ البرد. التفتُّ نحو الحقل، وبينما داعب الكرى أجفاني أحسستُ بدفء تاش قربي ورأيتُ كيف جعل النسيمُ بتلات السوسن ترتعش. أطبقت عينيّ، وسقط من السماء ألفُ شعاع ضوء ازدان ريشُه بغبش المغيب.


* Mario Angel Quintero شاعر وكاتب قصة كولومبي من مواليد 1964، تُمثّل تجربته التيار الجديد للكتابة في بلده والنص مقطع من روايته CLOSER

** ترجمة: أحمد م. أحمد

المساهمون