فنّانون في متاهة التأشيرة البريطانية

فنّانون في متاهة التأشيرة البريطانية

09 اغسطس 2018
(عمل بانو جانيت أوغلو الذي انتُزع في ليفربول)
+ الخط -

صبري مصباح من تونس، وازيمبو من موزمبيق، فرقة "تال ناشيونال" من نيجيريا، هم من بين موسيقيّين وفنّانين من أفريقيا وآسيا لم تمنحهم السلطات البريطانية تأشيرة الدخول للمشاركة في "مهرجان ووماد الدولي"، رغم أن لديهم حفلات مبرمجة فيه. يحدث ذلك مع مهرجان يحاول منذ سنوات الاحتفاء بكلّ أشكال الفنون والموسيقى والرقص من العالم. ومع هكذا ممارسات، قد يكون من المستحيل مستقبلاً استمرار تظاهرةٍ بهذه التطلّعات.

حول ذلك، نشرت الصحافية كيت هاتشنسون مقالاً في "الغارديان" تقول فيه "إن بريطانيا ما بعد الاتحاد الأوروبي تقتل مشهدنا الموسيقي العالمي، وسيزداد الأمر سوءاً"، بينما انتقد منظّم "ووماد"، كريس سميث، الإجراءات "الاضطهادية" التي تمنع الموسيقيّين من الدخول للمشاركة في حدث ثقافي، وأشار إلى أن الأمر أدّى إلى تزايد عدد الفنّانين الذين يرفضون دعوة المهرجان خشية التعرّض إلى المماطلة قبل رفض تأشيرة الدخول.

لفت سميث، أيضاً، إلى أن الفنّانتَين الهنديّتَين، الأختين حشمت وسلطانة، لم تُمنحا التأشيرة إلّا بعد أن انتهى موعد حفلهما الذي كان مقرّراً قبل أيّام. والسنة الماضية رُفضت تأشيرة الموسيقيّ الغاني إيبو تايلور (80 عاماً) الذي قدّم عدّة حفلات موسيقية في لندن خلال العقود الماضية، وكان في كل مرّة يُنهي حفله ويعود إلى بلاده، غير طامع في البقاء على الأرض الإنكليزية، وتسبّب حجز جواز سفره لأسابيع، قبل أن يُحسم أمر التأشيره، في منعه من الذهاب إلى حفلاته الأخرى في أوروبا.

من جهته، أصدر مؤسّس "ووماد"، بيتر غابريل، بياناً قال فيه: "هل نريد حقاً أرضاً مسطّحة بلحية بيضاء، هل نريد بلاداً نفقد فيها إرادة الترحيب بالعالم؟"، فيما تساءل الصحافي جون سنو: "هل أصبحت الموسيقى عدوّنا الجديد؟".

التضييق المستمرّ من قبل الـ"هوم أوفيس"، المكتب الذي يمنح أو يمنع الإذن بدخول "الفردوس" البريطاني، لم يتسبّب فقط في إلغاء حفلات، بل خلق نوعاً من التخوّف لدى قيّمي المعارض ومنظّمي المهرجانات، فأصبح هؤلاء بدورهم يحسبون حساباً للرفض، ومنهم من يُكيّف برنامجه ليقتصر على مشاركين (بيض) يُستبعد رفض تأشيراتهم.

الأمر لا يقتصر على الفنّانين من جنوب العالم، إذ إن آخرين من شرق أوروبا تعرّضوا أيضاً للتمييز نفسه، من بينهم راقصون وتشكيليّون ومسرحيّون من صربيا وأوكرانيا وغيرهما، ومنهم من حاول التقدّم لطلب الفيزا عدّة مرّات ليتلقّى الإجابة نفسها.

وإذا كان هذا سلوكاً متوقّعاً من مؤسسة رسمية متعصّبة تخشى المزيد من المهاجرين، إذ لدى "المكتب" تجارب خلال السنوات الأخيرة مع فنّانين قدموا للمشاركة في حفلات وعروض ومهرجانات وانتهى الأمر بتقديمهم طلبات للجوء، فإن الشارع البريطاني نفسه بدأ ينجرف شيئاً فشيئاً وراء موجة العنصرية ومقولة "استعادة حدودنا" التي انتشرت أثناء التصويت على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

قبل أيام مثلاً، جرى إتلاف وانتزاع عمل للفنّانة التركية بانو جانيت أوغلو الذي كان قد أقيم خلال "بينالي ليفربول الدولي للفنون" في حزيران/ يونيو الماضي، وهو عبارة عن قائمة بأسماء 34 ألفاً و361 لاجئاً ومهاجراً قضوا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا؛ الحادثة تلفت إلى أن ثمّة من لديه رغبة في محو المهاجرين، بل في إلغاء التعاطف معهم، وأنه قام بتحويل هذه الرغبة إلى إرادة وهذه الإرادة إلى فعل.

في أيار/ مايو الماضي، أعلنت المقرّرة الخاصة للأمم المتّحدة حول العنصرية، تندا شيوم، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "ساهم في تشكّل بيئة صديقة للعنصرية والتمييز"، وأن "وجهات النظر المتعصّبة بدأت اليوم تكتسح الأحزاب السياسية سواء كانت تنتمي إلى اليمين أو اليسار"، ولفتت إلى تنامي أشكال معيّنة من العنصرية وعلى نحو خاص، باعتبارها أحد أعراض الزينوفوبيا، أي كره الأجانب بشكل عام، وليس فقط تقييمات مبنية على الاختلاف العرقي.

يميل المحلّلون إلى ربط مظاهر صعود العنصرية الاجتماعية عادةً بواقعة معيّنة، فيُقال زادت العنصرية تجاه المسلمين بعد 11 سبتمبر، أو تفاقمت الإسلاموفوبيا في فرنسا بعد عملية شارلي إيبدو أو تفجيرات باريس (تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)، أو زاد التمييز ضد المهاجرين في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. لكن من يراجع الدراسات التي تناولت العنصرية في بريطانيا مثلاً يجد أن فترات كمونها قليلة، وأنها اتجاه كان يصعد ويهبط مثل الموجة في المملكة المتّحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بل إن المهاجرين من أصول أفريقية وآسيوية، والذين كان البيض يرجمون بيوتهم بالحجارة ويتعرّضون للإهانة في الأماكن العامة، يذكرون أن الشرطة البريطانية وحتى وقت قريب (نهاية الثمانينيات) كانت توزّع عليهم دليلاً للتعامل مع العنصرية، (متوفّر في كتاب "المهاجر الطيّب" لـ نيكيش شوكلا)، ويتضمّن من بين توصياته: "إذا تحطّم زجاج النوافذ، ركّب نوافذ من البلاستيك، لا تضع يدك في جيبك وأنت تمشي في الطريق، لا تمشِ وحدك، لا تتأخّر في العودة، اشتر كلباً".. وغيرها من "النصائح الأمنية".

تقرير تندا شيوم لفت إلى عدّة ممارسات تذكّرنا بالسنوات المظلمة التي تلت إنهاء العبودية رسمياً، بينما ظلّت تعيش وتتنفّس في العقول وتمارَس في التفاصيل اليومية، متحوّلة إلى عنصرية تتجلّى في أشكال لا حصر لها من الأذى والتمييز، وتحمل اليوم مسمّيات جديدة مثل "إسلاموفوبيا" و"زينوفوبيا"، وهي في حقيقتها عنصرية صرفة قائمة على كراهية الآخر والشعور بالتفوّق.

تلفت شيوم أيضاً إلى أن البيئة المعادية اليوم في بريطانيا، لا تشمل المهاجرين غير الشرعيين أو الجدد، بل إنها تأخذ في طريقها بريطانيين هاجر أجدادهم إلى هذه البلاد منذ نهايات القرن التاسع عشر، هي التي مكثت 11 يوماً في بريطانيا تحقّق في أثر الـ Brexit على المساواة العرقية، تشير إلى أن ثمّة ممارسات رسمية وإعلامية تصنّف المهاجرين السود في دائرة المجرمين قبل أن يرتكبوا أي جرم، وأن الاستراتيجية التي تعرف بـ "برفنت" وأقرها البرلمان عام 2011، تعمل طيلة الوقت على تشويه صورة المسلمين وتعزّز توجّهات وأشكال التمييز ضدهم بدعوى "محاربة الإرهاب".

هذه الممارسات المتفرّقة ليست إلا مقطعاً عرضياً من جذع شجرة العنصرية القديمة التي نشهد اليوم عليها وهي تورق وتلقي بظلالها على كل شيء حولها، من السياسات إلى برامج المهرجانات الفنية.


عقبات مضادّة
مؤخّراً، أوصى مجلس اللوردات البريطاني باستحداث "تأشيرة تجوال" لتسهيل دخول الفنّان البريطاني إلى الاتحاد الأوروبي والعكس، بينما لفت تقرير لـ "جمعية الموسيقيّين البريطانيّين" إلى أن صعوبة التنقّل في أوروبا في السنتَين الأخيرتين أدّت إلى هبوط أعمال الفنانين وحفلاتهم بـ 19%، وأن 15% من الفنّانين البريطانيين فقدوا وظائفهم في بلدان الاتحاد، ومعظمهم يواجه صعوبة في الحصول على الفيزا الأوروبية.

المساهمون