نيتشه: عن مرض اسمه التاريخ

نيتشه: عن مرض اسمه التاريخ

31 اغسطس 2018
(نيتشه في بورتريه أنجزه ماركس هيكس)
+ الخط -

يُمثّل كتاب "حول منافع ومضار التاريخ على الحياة" لـ فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، والذي صدر عام 1874، الاعتبار الثاني ضمن كتابه "اعتبارات في غير أوانها" (من مجموع أربعة اعتبارات)، وهو من أبرز كتب مرحلة الشباب، رغم أنه لم يحقّق نجاحاً يذكر في حياة الفيلسوف الألماني، حتى أن عدد مبيعاته لم يتجاوز 700 نسخة.

وإن كانت الاعتبارات الثلاثة الأخرى تتعلّق بشخصيات ثقافية معروفة (دافيد شتراوس، وأرتور شوبنهاور، وريشارد فاغنر)، فإن الاعتبار الثاني يتعلّق بالتاريخ وعلاقتنا بالزمن، وبلغة أخرى، بالمكانة التي يتوجّب أن يتّخذها الماضي تجاه الحاضر، هذا الحاضر الذي يفهمه نيتشه كمبادرة للانفتاح على المستقبل.

كان نيتشه، لحظة انشغاله بتأليف هذا الاعتبار الثاني، منهمكاً أيضاً في قراءة غوته الذي سيستشهد به في أكثر من موضع، ولكن أيضاً في قراءة مراسلات شيلر وغوته، وبحثه الموسوم بـ "ما الغاية من دراسة التاريخ الكوني؟"، كما أنه قرأ أجزاء من محاضرات هيغل حول فلسفة التاريخ، وعرفت بعض أفكار محاضرات المؤرّخ السويسري ياكوب بوركهاردت طريقها أيضاً إلى هذا العمل.

سيجد هذا الكتاب صدى في كتاباته اللاحقة، كما أنه سيحظى بأهمية كبيرة في الدراسات النيتشوية، إذ رأى العديد من الباحثين أنه يمثّل توطئة فكرية لكتابه "جينالوجيا الأخلاق". لكن تتوجّب الإشارة منذ البداية إلى أن نيتشه يقارب موضوعه هنا من جوانب متعدّدة؛ فهو حين يتناول إمكانيات علم التاريخ، يقارب أيضاً مواضيع لها علاقة بفلسفة التاريخ ونظرية العلوم، وحين يربط بين التاريخ والحياة الإنسانية، فهو يمارس أيضاً نوعاً من الأنثروبولوجيا.

بالنسبة إلى نيتشه، يمثّل التاريخ ضرورة وفي الآن نفسه عقبة. وهو يعتبر أن المجتمع الألماني يعاني من مرض التاريخ، وأن الحضور الطاغي للتاريخ يضرّ بالحياة، ويضعف الشخصية الفردية والجماعية، ويؤسّس لوهم العدالة عبر القول بالموضوعية التاريخية.

ولربما، تكمن هنا أهمية رؤية نيتشه للتاريخ بالنسبة إلى الفكر العربي المعاصر، والذي لم يطرح بعد هكذا سؤال أو ما برح يُمعن في كبت السؤال عن أهميّة التراث بالنسبة إلى الحياة. ولكن، حتى نعود إلى نيتشه، سنكتشف أنه ينتقد النظر إلى التاريخ باعتباره معرفة موضوعية، لأنه برأيه، سيصبح بذلك في قبضة الميتافيزيقا. لهذا يطلب تجاوز هذه المعرفة الموضوعية إلى معرفة منظورية تؤسّس لذاكرة مضادّة للذاكرة باعتبارها هويّة وتكلّساً للفكر، أو حتى خروجاً من الحياة أو تضحية بها. إنه يطلب بذلك تجاوز نموذج العلم كما أسّس له سقراط، والذي يجعل الحياة تابعة للعقل، كما أوضح دولوز.

وفي السياق نفسه، يعتبر أن الإفراط في التاريخ يضر بالحياة، وبالحاضر، ولهذا يمكن اعتبار تأمّلاته النقدية حول التاريخ دعوة لإعادة اكتشاف ملَكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد والشعب والثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي والحياة من سيطرة الذاكرة.

يُميّز الفيلسوف الألماني، في كتابه، بين ثلاثة أنواع من التاريخ: التاريخ الأثري والتاريخ التقليداني والتاريخ النقدي، فالأثري والتقليداني يؤكّدان الاستعمال الإيجابي والمنتَج للتاريخ بالنسبة إلى الحياة، حيث يمنحان الناس الشجاعة والقدرة على المقاومة، وعلى النقيض منهما، لا ينظر التاريخ النقدي إلى الماضي باعتباره أمراً إيجابياً، بل باعتباره سلبياً ومدمّراً. ففي الوقت الذي يستخلص التاريخ الأثري من الماضي أبطاله الكبار ـ المنتصرين والمغامرين ـ معتبراً إياهم مصدر إلهام بالنسبة إلى الحياة، وفي الوقت الذي يُحوّل التاريخ التقليداني الماضي إلى مصدر للهوية وشد لُحمة الجماعة، فإن التاريخ النقدي لا يرى للماضي أيّة خدمة يُمكن أن يُقدمها للحياة، ولهذا يعمد إلى تدميره.

يسمح التاريخ النقدي لنا بالتحرّر من ثقل الماضي، خصوصاً أمام خطر أن ينتهي التاريخان، الأثري والتقليداني، في حال إساءة استعمالهما، إلى نوع من الجمود. إنه - كما كتب بول ريكور معلّقاً - "يعيّن لحظة النسيان المستحق".

سيتحدّث نيتشه أيضاً، إضافةً إلى تقسيمه الثلاثي لكل دراسة للتاريخ، عمّا يسميه باللا-تاريخي والفوق-تاريخي، وكلاهما، يُمثّل، كما أوضح ريكور، العلاج الطبيعي المضادّ لغزو الحياة من طرف التاريخ، أو لما يسمّيه "مرض التاريخ". إنه يعتبر مفهوم "اللا-تاريخي" البعد الأكثر أهمية في سياق سؤال التاريخ. فهذا المفهوم الذي اعتبره ريكور "ملغزاً"، هو في الواقع نقطة انطلاق كلّ تحليل للتاريخ بالنسبة إلى نيتشه، ويتوجّب، في رأيه، أن يكون الفرضية التي تنطلق منها كل دراسة تاريخية. فهو يوضح بأن "اللاـ تاريخي" لا يمثّل فقط قاعدة أفعال مختلف الفاعلين في التاريخ، بل هو كذلك بالنسبة للمؤرّخين ولأولئك الذين سيقرأون التاريخ، ويتوجّب عليهم الانخراط فيه.

لقد ظل نيتشه يؤكّد ضرورة تقييم كلّ فكرة، نظرية أو نظام إلخ، بالنظر إلى أهميّته بالنسبة إلى الحياة، وهذا ما جعله يعتبر مثلاً أن مشكلة فلسفة التاريخ الهيغلية تكمن في أنها ترى أنه لكي يصبح التاريخ علماً يتوجّب عليه أن يُقصي الحياة العضوية. بل إنه لم يتورّع عن اعتبار الهيغلية باثولوجيا يصعب علاجها، منافحاً عن غوته ضد هيغل، ومعتبراً غوته في "إنساني مفرط في إنسانيته"، مجرّد حادث عرضي في التاريخ الثقافي الألماني، وأن الألمان هيغليّون وهيغليّون فقط! فـ هيغل ظل يؤكد أن التقدّم في التاريخ هبة الروح، في حين أن الحياة العضوية ليست أكثر من محافظة وتكرار، في حين يرفض نيتشه هذا الفصل بين الروح والحياة، كما يرفض الفصل بين الجسد والروح، الذي أبعد العلم عن الحياة نفسها. إن نيتشه يقف على النقيض من التقليد السقراطي الذي يخترقه الوهم القائل بإمكان علاج الوجود بالمعرفة.

هيغل، في مقدّمته لفلسفة التاريخ، طبّق استنتاجاته الفلسفية على التاريخ، ففي رأيه، من أجل فهم مجرى التاريخ، هدف هذا التاريخ وجوهره، يتوجّب أن نمتلك نظرة فلسفية، وليس الاكتفاء باعتبار التاريخ مجرّد أحداث، يتوجّب سردها كما عشناها، فهي منهجية، لن تتمكّن، في رأيه، من الإمساك بروح هذا التاريخ. فما تحمله الفلسفة للتاريخ هو مفهوم العقل، أو واقع أن العقل جوهر كل واقع. إنه مبدأ التاريخ ذاته.

إن هذا العقل الذي يُعبّر عن نفسه في التاريخ أو هذه الروح، هو في جوهره حرية، وما التاريخ سوى تمظهر لهذه الحرية، أو تقدّم في وعي هذه الحرية. لكن نيشته في رفضه لهذا الانفلات من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة العقل، وفي دعوته إلى تحويل الطبيعة إلى طبيعة جديدة، يُهاجم أيضاً فكرة التقدّم وفكرة المعرفة، أو هذه الفكرة التي تُعلي من شأن المعرفة على حساب الحياة.

الحاضر هو المختبر الذي يُصنع فيه التاريخ، فـ نيتشه لا يدعونا للخروج من التاريخ، وإنما للخروج عليه، إن صحّ هذا التعبير، من أجل بناء ثقافة جديدة، وهو عبر ذلك، لا ريب، يعيد إلى الإنسان إرادته ويحرّره من قدرية أو ثيولوجيا تاريخية على الطريقة الهيغلية، وهو ما يفسّر تأكيده ملكة النسيان وضرورتها، والتاريخ النضالي ضد المنهجية الوضعية.

لا يُقدّم نيتشه، عبر اعتباره هذا، ردّاً على فلسفة التاريخ الهيغلية فقط، ولكن يتحدّى في الآن نفسه الثقافة التاريخية السائدة في عصره، إذ في الوقت الذي ألَّف فيه كتابه، كانت ألمانيا رائدة في مجال الدراسات التاريخية ومناهج كتابة التاريخ، بل إنها أسّست بذلك لعلم جديد في الفكر الأوروبي، سواء تعلّق الأمر بإنجازات ما سُمّي "المدرسة البروسية" (ترايتشكه، دويزن، زيبل) أو بازدهار التاريخ القديم، والكنسي والثقافي مع بوركهاردت، وفون دولينغر، ومومزن.

ستنتقد المدرسة التاريخية الألمانية هيغل والهيرمينوطيقا الرومانسية، فهي من جهة تطلب التخلّي عن فكرة وجود غاية نهائية للتاريخ، وإعادة الاعتبار للأحداث التاريخية، مؤكّدة أن لكل حقبة معنى خاصا بها، من دون أن تكون مجرّد مرحلة لتمظهر الفكرة في التاريخ، ومن جهة ثانية، فإن اكتمال هذا المعنى، لا يتحقّق فوق التاريخ، وهو ليس مجرّد نتاج لعبقرية فردية، بل معنى عقلاني يتجاوز الأفراد ويكوّن الواقع التاريخي.

وفي الواقع، فإننا نجد أنفسنا مع نيتشه، أمام إشكاليّتَين مختلفتَين. أولاً: تلك المتعلّقة بمهنة المؤرّخ. إنه يقدّم طريقة إيجابية لصناعة التاريخ عبر أشكاله الثلاثة: الأثري، التقليداني والنقدي. فهو تاريخ موجَّه إلى الرجال الأقوياء من أجل دعمهم بأمثلة نموذجية من الماضي، وهو أيضاً تاريخ يعتمد تحليلاً للأصول، من شأنه أن يساعد على المحافظة على قيم الشعب، ثم هو تاريخ نقدي، سيحكم على الماضي ويحاكمه، مقترحاً قيماً جديدة.

أما الإشكالية الثانية، فهي تلك المتعلّقة بتأثير التاريخ في تربية الأجيال الجديدة، فهو ينافح في هذا السياق عن استعمال متوازن للتاريخ، حتى لا يطغى على الحياة، وهو هنا يتكلّم عن الحياة مثل "المهنة التي يتوجّب تعلمها"، وكأننا به يُردّد ما كتبه غوته في "فاوست"، من أن شجرة الحياة خضراء، أمّا النظرية فرمادية!

المساهمون