أنطون مقدسي: رسالة لم يفتحها الديكتاتور بعد

أنطون مقدسي: رسالة لم يفتحها الديكتاتور بعد

29 اغسطس 2018
(أنطون مقدسي)
+ الخط -

من الصعب أن نجد تصنيفاً ملائماً لـ أنطون مقدسي (1914 - 2005)، وإن كان كثيرون ينسبونه إلى دائرتين: الفكر والسياسة. لكن إذا دققنا فيهما سنجد أن توصيف المفكّر قد لا ينطبق عليه بشكل تام كونه لم يضع أفكاره في مؤلفات منهجية وكانت إصداراته القليلة أقرب إلى جمع مقالات ومحاضرات ودروس بدفع من ناشرين وأصدقاء. أما توصيف السياسي، فهو مُسقط عليه بسبب خيار شخصي من مقدسي بألا يندفع في لعبة السلطة، وهو ما يشير إلى قرار واع بأن يكون مثقفاً نقدياً، أي محتفظاً بمسافة مع السلطة.

رغم ذلك كان للمثقف السوري الراحل أثر كبير في هذا المجال وفي ذاك. فكرياً، يعترف له جلّ المثقفين السوريين، من الأدب إلى الفلسفة، منذ ستينيات القرن الماضي بالريادة وكثير منهم من نسب نفسه تلميذاً له بالمعنى المباشر أو من خلال القراءة. وفي السياسة كان لمقدسي أثر بفضل مساهماته في بناء الحركة السياسية في سورية والتي أهال على حيويّتها الترابَ "حزبُ البعث" مع وصوله إلى السلطة، لكن جرأة مواقفه السياسية تظل في طليعة آثاره.

يمكن هنا أن نعدّ من مواقفه في التاريخ القريب أنه كان من بين موقّعي "بيان الـ99" سنة 2000، حين كانت سورية تتهيأ للانتقال من قرن إلى آخر، ومن رئيس إلى ابنه وكأنها مزرعة ضمن تركة.

كما أرسل مقدسي رسالة مفتوحة باسمه إلى الرئيس الجديد، يطالب فيها بإنهاء حالة الطوارئ التي امتدّت لعقود وأرهقت فاعلية الشعب السوري. وهي رسالة دفع ثمنها نقداً، حيث أقيل من وظيفته التي شغلها منذ الستينيات في وزارة الثقافة.

حملت الرسالة نبرة سقراطية، عقلانية وساخرة في آن، إذ يقول مثلاً: "سيدي، اسمح لي أن أهنئك بالرئاسة الأولى، وأيضاً بكلمات وَردت في بيانك، حقاً واعدة (..) إنها بداية لدرب طويل إذا سلكناه يمكن أن ننتقل تدريجياً من البداوة والحكم العشائري إلى حكم القانون".

ويضيف: "كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، إنجازات الشعب، إرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل. إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: الأول، أن يعمل ليلاً ونهاراً كي يضمن قوت أولاده. الثاني، أن يقول ما يُطلب منه قوله، وأن يتبنى السلوك الذي يُطلب منه: مسيرات، هتافات... إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار، هو أنه يتعايش مع هذا الوضع المتردّي تعايُش المريض مع مرض مزمن".

بعد عقد تقريباً، وكأن المتظاهرين من درعا إلى حلب قد ترجموا هذه الأقوال في مطالب وشعارات مباشرة. كان الرئيس الوريث قد نكث عهوده التي لم يطمئن لها مقدسي، ولم يكن عصر الابن أفضل على السوريين من عصر والده، ثم سرعان ما تسارعت الأحداث إلى أن أوصلت الجميع إلى "النفق" الذي دخلته البلاد ولم تخرج منه إلى اليوم.

لكأن رسالة أنطون مقدسي لم تُقرأ في أوانها. لو جرى الالتفات إلى محتواها ربما تجنّبت سورية مأساتها التي تعيشها. ويبدو أن مقدسي قد أحسّ في تلك اللحظة بمسؤولية تاريخية، خصوصاً أنه شخصية وطنية بعيدة عن التهافت على المناصب ولها مكانتها الاعتبارية في عالم الثقافة، دون أن ننسى موقعه الرمزي بسبب كونه أحد مؤسسي "حزب البعث".

لم تكن تلك الرسالة سوى نقطة في مسار طويل لصاحبها إذ علينا أن نفهم أن قوام فكره كان قائماً على ضرورة توعية الشعب من أجل بلوغ أفضل تنظيم ممكن، بما يشترطه ذلك من توفير الحرية والعدالة والعيش الكريم.

هذا المطمح كان يتجه له عملياً من خلال محاولة تغذية الثقافة العربية بجديد الفكر العالمي بشكل مستمر ولعله هنا استفاد من سنوات تحصيله الجامعي في فرنسا وتنوّع المجالات التي درسها مثل الأدب والفلسفة وعلوم التربية. ومن جانب آخر كان مقدسي يقدّم قراءات في الأحداث التي عايشها، وأبرزها قراءاته في حرب الخليج التي قدّمها في كتاب بعنوان "حرب الخليج، اختراق الجسد العربي" (1992).

المساهمون