الترجمة و"اكتشاف" الآخر

الترجمة و"اكتشاف" الآخر

12 اغسطس 2018
ماريو أنخيل كينتيرو/ كولومبيا
+ الخط -

يقف زائر بلدة الرابضة، الواقعة في ملتقى نهرَي لَبلَة وأُدْيِل، بمحافظة ولبة في إقليم قادش الإسباني، على متحف "رصيف سفن الكرابيلات"، وهي نظائر سفن سانتا ماريا، ولابِينتا، ولانِنْيا، تلك التي رست بـ كريستوف كولمبو يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1492، في سانْ سالفادور؛ أوّل جزيرة من تراب القارّة الأميركية وطئها بحّارته الأوروبيّون.

قد ينتبه الزائر إلى لافتة عند مدخل المتحف، كُتِب عليها بالخطّ العريض "لقاءٌ بين عالمين". هذه العبارة هي مُراجَعةٌ نقدية للتعبير الكولونيالي "اكتشاف أميركا"، الذي ناهضه الأميركيّون، خصوصاً اللاتينيّين منهم، لِما فيه من تحقير ومركزية أوروبية يبخسان السكّان الأصليين حضاراتهم الكبرى؛ مثل المايا والأستيك والإنكا؛ لأنهم تساءلوا بموضوعية عمّن اكتشف الآخر: الوافد الغازي والناهب والمستعبِد، أم ابن القارّة الذي استيقظَ فجأةً على من يقتحم عليه عزلته في عالمه القصيّ؟

يُحرِّض هذا الصنف من التفكير على الدعوة إلى إعادة النظر في تصوّرات ومفاهيم وعبارات متداوَلة، وتحريرها من سياقاتها التاريخية، لإدراجها ضمن أخرى أقرب إلى الموضوعية. ولعلّ الترجمة معنيَّةٌ بهذه المراجَعة في بعض ممارساتها وعباراتها، والتي من أكثرها تداولاً وسْمُها بكونِها اكتشافاً للآخر.

استناداً إلى هذا التصوّر ما بعد الكولونيالي الرصين، يغدو مشروعاً عدم الانسياق مع ما تردّده ألسنة كثيرين عن مهمّة الترجمة، حين يذهبون إلى أنها تكمن في اكتشاف نصوص الآخرين، وتبعاً لذلك، الكشف عن ثقافاتهم في تجليّاتها المختلفة فقط.

ولا غرو أنْ يُنظَر إلى الاكتشاف في العلوم الدقيقة والتجريبية؛ بصفته مبدأ إيجابياً، على وجه العموم. لكنَّ الباحثين في العلوم الإنسانية، وخصوصاً علم الترجمة، يرتابون في الاكتشاف باعتباره استراتيجية ونشاطاً، لِما قد تتضمّن ممارستُها من تعالٍ على الآخر وتبخيس من قيمته، إذا أغفل المترجِمُ وقارئُ الترجمة، أيضاً، الانطلاقَ من مبدأ القبول بهذا الآخر والرضا بمحاورته، والاعتراف به كياناً قائماً بذاته، لا يقلُّ شأناً عن سواه.

لكن، ربما كانت المهمّة الأساس للترجمة تتعدّى هذا، إلى خلق الاستعداد لدى قارئها في اللغة المستقبِلة، لكي يتقبّل ثقافة الغريب، ولمساعدته على فهمِها وتفهُّمها والإفادة منها، بصفتها إغناءً للذات المستقبِلة.

طالما أن الترجمة حركة في الزمان والمكان أيضاً، فهي تفترض ضمناً توقُّع اللقاء مع الآخر، وحتمية التواصل معه، وعقد الصلة به. لكن اللقاء هنا عادةً ما يكون على أرض القارئ، أي لغتِه الأصلية، بمعنى أن العنف يُحيَّد، لأن قراءتها تصدر عن فعل إراديّ ذاتيّ لا إكراه يطبعه، إلّا ما كان من أمر بعض المقرَّرات الدراسية في التعليم، والتي تكون موجَّهةً لإحداث تغيير في القيم والأخلاق والأذواق.

وصعبٌ أن ننفي عن ذواتنا، ونحن نترجِم أو نقرأ ترجمةً، كوننا نقبل تلقائياً اللقاء بالآخر من خلال الارتحال زمنياً بين لحظتَين: الأولى هي لحظة تأليف العمل الأصل، والثانية هي لحظة قراءتِه مؤوَّلاً في غير لغته، على اعتبار أن كلّ تحويل للنص هو تأويل له بالضرورة، وأن "مهمّة التأويل - بحسب سوزان سونتاغ - هي حقّاً مهمّة ترجمة"، مع ما ينجم عنها من ضمان الامتداد للنص الأصل، في الزمان والمكان، واختراقه جغرافيات ثقافية لم تخطر ببال مؤلِّفه الأصلي.

وعَوْداً إلى اللقاء بين العالَمين في القارّة الأميركية، يلفت انتباهَنا إلحاحُ العديد من الدراسات التاريخية على الدور الكبير الذي نهض به المترجِمون، الذين يسّروا غزو "القارّة العجوز" لـ "العالم الجديد"؛ فبعد الإخفاق الكبير الذي عاناه كبار الغزاة الأوائل من الإسبان، ما كان للأهالي أن يُذعنوا للغازيَين الإسبانيَّين، هِرنان كُورْتِيس وفْرانثيسكو بيزَّارُّو، فيُحقِّقا أكبر الانتصارات، لولا الاعتماد على مترجمين أكفاء، آمنوا بأطروحة الغُزاة، ودافعوا باستماتة عنها، من دون أن يستحضروا فكرةَ ندّية الآخر، وجعل اللقاء به فرصةً للتعايش معه، لبناء مستقبل مشترك.

في مقدّمة هؤلاء المترجمة الهندية فاتنة الجمال مالينْشي (عمّدها الإسبان باسم دونيا مارينا)، والتي أنجب منها كُورْتيس ولداً، وعملت لديه مستشارةً وجاسوسة أيضاً، فعُدّت لدى أبناء قارّتها تجسيداً حقيقيّاً للمترجِم الخائن.

دلالات

المساهمون