جوزيف بتس.. أو "الحاج يوسف" في طريقه إلى الحج

جوزيف بتس.. أو "الحاج يوسف" في طريقه إلى الحج

11 اغسطس 2018
مخطوطة لقوافل حجيج تنطلق من القاهرة/ 1848
+ الخط -

تكاد تكون رحلة الإنكليزي جوزيف بتس (1663-1735)، إلى مصر والمدينة ومكة المكرمة، التي قام بها سنة 1680، من أقدم الرحلات الأوروبية إلى البلاد العربية، ومن أكثرها إدهاشا وإمساكا بالتفاصيل وغنى بالمعلومات المهمة جدا، عن تلك الفترة من حياة العرب، سواء في إفريقية أو في مصر وبلاد الحجاز.

ويوضح مترجم الكتاب عبدالرحمان عبدالله الشيخ، أن بتس هو أول إنكليزي وثاني أوروبي يتمكن من زيارة الأماكن المقدسة في ذلك الوقت من التاريخ، وهو بالنظر إلى أعمار الرحالة الأوربيين، يعتبر أصغرهم سنا، إذ كان بالكاد يتجاوز سن المراهقة، عندما قام برحلته تلك، برفقة سيده الجزائري.


في خدمة سيده

ففي سن الخامسة عشرة عمل بتس بحارا، لكنّه أسر في البحر الأبيض المتوسط على أيدي رجالات الجهاد البحري، حيث كان المتوسط تحت سيطرتهم تقريبا، وكانت السفن الأجنبية العابرة تتعرض للقرصنة.

وهكذا وقع أسيرا بين يدي بحّار جزائري اتّخذه عبدا. وقد مكث مع هذا البحار سنوات طويلة، يقوم بخدمته كعبد، إلى أن قرر "سيده" أن يذهب للحج، وفي نيته أن يعتقه بعد العودة، وهذا ما كان بالفعل.

يصف بتس سيده الذي كان قائدا لكتيبة فرسان بأنه كان في مرحلة شبابه خليعا وماجنا ولم يترك منكرا إلا فعله، ولا إثما إلا اقترفه، وكان معروفا أنه قاتل محترف، وقد أراد التوبة، بدعوة بتس للإسلام.

سيتحرر بتس، ولكن لم يعرف ماذا يفعل بحريته، بعد أن استبد به الرق، لكنه في الأخير ترسو حيرته على الذهاب إلى إسلامبول، عاصمة الخلافة الإسلامية. وحين وصل لم يجد ما يعمله، فيقرر العودة إلى موطنه الأصلي، إنكلترا، لكن الأمور أيضا لم تكن وردية تماما، فقد جابهته الكثير من الصعاب في التأقلم، إلى انتهى به الأمر إلى ملاقاة والده، حيث استقرت حاله.


زمن الرحلة

لا يمكن التغاضي بتاتا عن زمن رحلة بتس إلى مصر والحج، فقد عرفت تلك المرحلة التاريخية، صراعا مريرا في منطقة المغرب العربي وحوض المتوسط بين قوى المسلمين، المورسكيين الهاربين من الأندلس والقوتين الإسبانية والبرتغالية.

وقد كانت مواجهة عنيفة، شهد أوارها الأبيض المتوسط، ضمن ما يعرف بحركة الجهاد البحري، حيث انتهج المغاربة والجزائريون سياسة الحرب البحرية لفرض شروطهم على "العدو" وعلى السفن البحرية التجارية التي تعبر مضيق جبل طارق نحو المحيط الأطلسي.

في هذا الجو سيأتي بتس، الذي سيصبح اسمه الحاج يوسف إلى الجزائر أسيرا، خصوصا إذا علمنا أنه كان يشتغل بحارا على ظهر سفينة قراصنة، وقعت في أيدي حركة الجهاد البحري، واقتيد إلى الجزائر، ليخدم في بيت سيده الجزائري، الذي كان قائدا حربيا.

وفي كل الأحوال فإن رحلة بتس غنية جدا بالمعلومات والمعطيات عن تلك المرحلة، وهو بحسه العالي، حتى مع حداثة سنه، استطاع أن يقدم كل التفاصيل الثمينة لفهم معاش الناس وطبيعتهم وحركتهم وصراعاتهم في مدينة الجزائر التي عاش فيها عبدا، وفي المناطق الأخرى التي مر بها وهو في طريقه إلى الحج مع سيده، في رحلة جمعت بين الشطر البري والشطر البحري.

ولكن هل الحج متاح للجميع؟ هل كان كل من يسكن العاصمة الجزائر يستطيع السفر؟ يخبرنا بتس بأنه ليس في إمكان سكان الجزائر، وخصوصا الأتراك، الذهاب إلى الحج من دون إذن خاص من الداي، وهو الحاكم الذي يمثل السلطة العثمانية في الأطراف، وعندما يجري مخالفة هذا الأمر من طرف أحد من هؤلاء، يغرم عند عودته إلى المدينة ويمنع من تقاضي راتبه بقية العام.

وهو هنا يفيدنا بدرجة تحكّم وتغول الإدارة العثمانية في حياة الجزائريين، وهيمنتها على جميع مناحي حياة الناس وشؤونهم.

سيقوم بتس برحلته البحرية مع سيده، وسيصل إلى الإسكندرية بعد أربعين يوما من الإبحار. ثم سيبحر بعد ذلك في نهر النيل، يكتب "ونهر النيل معروف تماما ومشهور في سائر أنحاء العالم. وللنهر مصب آخر يقع إلى الشرق من رشيد بعدة فراسخ، يسميه أهل البلاد دمياط، وقد كتب بعض الكتّاب عن مصبات أخرى متعددة لكن هذا غير صحيح، وإن وجدت فمجرد ترع أو قنوات صغيرة لم أسمع عنها أبدا من أهل البلاد. وإنني متأكد أن فرعي النيل: رشيد ودمياط، يمثلان مصبي النيل الرئيسيين، وهما الفرعان اللذان يمكن الملاحة فيهما".

وهو يفرد مقطعا مشوّقا في وصف أهمية النيل في حياة المصريين، وكيف يتعاملون معه ومع أحواله ويعرفون أوقات الإبحار فيه وأوقات فيضانه، التي تبلغ أربعين يوما، قبل أن تنحسر، فتعم الاحتفالات بيوت المصريين ويقيمون الولائم، فوقتها يبدأ موسم البذار.

ولكن هل كانت الملاحة في النيل سالكة وميسّرة، أم أنها كانت تخضع للعصابات وقطاع الطرق، مثل بقية المسالك المائية في ذلك الوقت؟

يجيب بتس "لا يخلو نهر النيل من اللصوص الذين ينهبون القوارب، وهم يكثرون في هذا الوقت من العام لكثرة الحجاج الذين يتخذون طريقهم مبحرين في النيل من رشيد إلى القاهرة، ويعلم اللصوص أن الحجاج يحملون معهم مبالغ مالية، وقد اعترانا الخوف من مهاجمتهم، لكننا عندما أطلقنا النار من أسلحتنا ولّوا هاربين".


عبيد في القاهرة

يلتقط بتس صورة سلبية عن الحياة الاجتماعية في تلك الفترة في مصر، وفي القاهرة تحديدا، عندما يقف عند تفشي ظاهرة البغاء، والتي ساهم المماليك في شيوعها في ذلك الوقت. وربما تعمد بتس الإشارة إلى الظاهرة كما إلى ظواهر أخرى سلبية عن سبق إصرار وترصد.

ففي نفسه كان يمور الغضب من سنوات العبودية التي قضاها في كنف سيده الجزائري، وهو بذلك يكون قد تصيد تلك المظاهر السلبية، وقام بإبرازها، كنوع من الانتقام الذاتي. ولكن على العموم، لا تنكر حتى الكتب التاريخية التي تتحدث عن تلك الفترة من أواسط القرن السابع عشر، وجود ظاهرة البغاء وانتشارها في عدد من المدن، ومنها القاهرة.

يكتب بتس "من الصعب أن أقدم بيانا كاملا بوقائع الفجور والانحلال، لكنني لا أستطيع تجاهل الحديث في هذا الموضوع، آملا أن يكون حديثي هذا يدفع أهل بلدي (إنكلترا) للاحتراس من هذا الوباء (البغاء) وأن نسنّ التشريعات التي تكفل العقاب الفعال لهذا الفعل. ونطلب من الله أن يبارك جهودنا لقمع هذه الخطيئة التي تحطم الأرواح".

ثم يستطرد واصفا البيئة الاجتماعية في تلك الفترة والمفرغة لمثل هذه الظواهر "وفي مصر، في الفترة التي زرتها، هناك شوارع خاصة غاصة ببيوت الدعارة، وقد تعودت الداعرات أن يجلسن عند أبواب بيوت الدعارة. أو أن يتجولن سافرات في الشوارع، وقد ارتدين أفخر ثيابهن، وبعضهن كن يلبسن قمصانا داخلية وسراويل حريرية وعباءات، كعباءات الرجال من حرير، ويعقدن حول خصورهن أحزمة حريرية، ويضعن خناجر في أحزمتهن وأغمدة الخناجر غالبا ما تكون من فضة". وهو يمضي بكل سلاسة في وصف هؤلاء النسوة وما يتزيّن به، وكيف يدخن، وكم يتقاضين من مهنتهن، ومكرهن إلى غير ذلك.


سقاؤون وجوامع

عدا هذه الجزئية التي تقف عند نقيصة اجتماعية، فإن بتس لا يكبت انبهاره بالقاهرة العظيمة وبأهراماتها وجوامعها وعمرانها. ويقف عند تعدد الألسن في هذه المدينة الكبيرة التي جمعت بين ثناياها كل البشر من مختلف أنحاء المعمورة.

ويصف الفنادق والخانات والترتيب العمراني والمديني للمدينة ووسائل النقل في ذلك الوقت، وكيف أن سكان القاهرة في أوقات الحر كانوا يرشون الشوارع على الأقل مرتين في اليوم، وشيوع ظاهرة السقائين الذين يقدمون الماء للعابرين بمبالغ يسيرة.

زيادة على ذلك كانت تجارة الرقيق مزدهرة جدا، ولم يكن هؤلاء العبيد يجبرون على التحول إلى الإسلام، بل كان يترك لهم الخيار في ذلك، ويقر بأن الأمر نفسه شائع في الجزائر أيضا، حيث كان أغلب العبيد يبقون على دينهم الأصلي من دون إعلان الشهادتين أو الختان كشرط.


حمام مكة وأستار الكعبة

سيبحر بتس بعد ذلك مع سيده إلى البحر الأحمر، ومن هناك لبس الحجاج ثياب الإحرام، وهم على أهبة الوصول إلى جدة. ليبدأ طقس الحج بالوصول إلى مكة، وهو هنا لا يأتي بجديد، حين يتحدث عن الشعائر، ولكنه مع ذلك يرصد بعض التفاصيل المهمة، التي يمكن أن تكون ذات مغزى.

فحجّ تلك القرون، ليس هو حج اليوم، لقد كان الميسورون يستغرقون أشهرا من الإبحار والسير البري قبل أن يصلوا إلى البيت العتيق، أما عامة الناس فكانوا يقصون حولا كاملا من المسير، حتى يصلوا إلى الحج، مع استحضار كل المخاطر المحدقة في ذلك الوقت وعدم تأمين الطرق البرية والنهب المتواصل الذي تتعرض له قوافل الحجيج.

وحتى نسوق مثالا على بعض الملاحظات التي يسجلها بتس، ما يتعلق بدلالة ورمزية طواف الرجال والنساء والفرق بينهما، يقول "وفي بعض الأحيان يكون الطائفون حول الكعبة عدة مئات في وقت واحد، خاصة بعد صلاة العشاء، أي بعد إيقاد الشموع. ويكون الطائفون من الرجال ومن النساء، إلا أن النساء يطفن من الدائرة الأوسع، بمعنى أن الرجال هم الأقرب إلى بيت الله، أما النساء فيشكلن دائرة بعد دائرة الرجال، أي الدائرة الأبعد من الكعبة، لذا فمن الصعب أن يتمكن كل الطائفين من تقبيل الحجر الأسود، لذا فبعضهم يرفعون أيديهم تجاهه ثم يمسحون أيديهم بأوجههم قائلين: الله أكبر أو تبارك الله.

وإذا كان الطائفون قليلين انتهزت النسوة الفرصة فقبّلن هذا الحجر، وأسرعن في الطواف لتقبيله مرة أخرى والمكوث أمامه فترة طويلة، ويعطي الرجال للنساء هذه الفرصة ولا يزاحمونهن احتراما للزمان والمكان". أهم ما أثار بتس، عدا الطقوس والعبادات وتنوع البشر الذين يأتون للحج من الجهات الأربع، هو الحمام، ويقصد بذلك نوع من الحمام الأزرق الموجود في مكة المكرمة.

يكتب "وفي مكة، آلاف من الحمام الأزرق لا يجرؤ أحد على صيده أو إيذائه، وبعضه أليف لدرجة أنه يتناول قطعة لحم من يدك، وقد قمت بنفسي كثيرا بإطعام كثير منه في المنزل الذي أقيم فيه، وهذه الحمائم تأتي بأسراب كبيرة إلى الحرم حيث يقدم لها الحجاج عادة الطعام"، وهم يعتقدون أنها حمائم مقدسة، وينعتونها بحمامات النبي، ويعتقد الحجاج أنها لا تطير فوق الكعبة، لكنه يقول أنه رآها خلافا للاعتقاد الشائع بين الناس، تحلق في أغلب الأحيان فوق الكعبة المشرفة.

يؤكد بتس أن الكعبة لم تكن مفتوحة الباب، وأنها لا تفتح بابها إلا يومين على مدى ستة أسابيع، يوم خاص بالرجال ويوم خاص بالنساء، وأن الولوج إلى داخل الكعبة أمر لا يتحقق إلا للمحظوظين من الحجاج.

وهو يفيد أنه دخلها، وأنه قام بكل الطقوس والشعائر التي يقوم بها المسلمون، كما أنه حضر إلى لحظة نزع الكسوة القديمة عن أستار الكعبة، ووضع الكسوة الجديدة، والتي عادة ما يتكفل بها شريف مكة. بينما يجري تقطيع الكسوة القديمة إلى قطع صغيرة وبيعها للحجاج، الذين يقبلون على اقتناء تلك القطعة من أدوات الغطاء، ويضعونها كما يقول بتس، على صدورهم لحظة قدوم أجلهم.

دلالات

المساهمون