تقرير "لجنة الحريات" في تونس: أبعد من الألفاظ

تقرير "لجنة الحريات" في تونس: أبعد من الألفاظ

11 اغسطس 2018
(غرافيتي في تونس أيّام الثورة، تصوير: نيكولا فوكيه)
+ الخط -

صدر تقرير "لجنة الحريات الفردية والمساواة" في تونس يوم 1 حزيران/ يونيو 2018 بعد أن عَكف على إعداده ثلةٌ من رجال القانون والثقافة طيلة سنةٍ كاملة.

أُحدثت اللجنة بقرار رئاسي في آب/ أغسطس 2017، بهدف "إعداد تقرير عن الإصلاحات التشريعية المتعلقة بالحريات الفردية والمساواة وفقاً للدستور المؤرخ 27 جانفي 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان".

ومن بين التوصيات، التي تضمّنها تقرير اللجنة المثير للجدل، حذفُ كل المفردات والعبارات التي تنتمي إلى حقل الدلالات الدينية، أي المصطلحات الفقهية التي لا تزال حاضرة في النصوص القانونية التونسية، كمجلّة الأحوال الشخصية والمجلّة الجزائية وغيرها. من بين المفردات التي اقترحت اللجنة حذفها: شريعة، موانع شرعية، فاحشة، عِدّة، مهر، ولي...

تندرج هذه الدعوة ضمن إرادة تحديث القواعد القانونية من خلال عَلْمَنَة (sécularisation) المفردات وإفراغها من الحمولات الدينية عن طريق إقصاء أية إحالة على منظومة الفقه التقليدية.

وهكذا، سعى القائمون على هذا التقرير إلى "تطهير" نصوص القانون التونسي من المفاهيم الفقهية والمفردات المُعبِّرة عنها، والتي اعتُبرت - بسبب دلالاتها وتداعياتها النفسية - مُخلّة بالمساواة بين الجنسَين، متضاربة مع روح الدستور ومتنافية مع اتفاقيات حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجمهورية التونسية. ولهذا، قاموا بتفكيك معمّق لبعض المفاهيم ومعانيها وتبعاتها الاجتماعية والقانونية من أجل تقصّي مَواطن "الإخلال".

وقد اعتمدوا في عملهم هذا على زاوية النظر السيميائية، وأكدّوا بمقتضاها أن هذه الكلمات باتت اليوم تعاني من مشكلَين دلاليَين: فمن جهة أولى، صارت هذه المفردات سلبيةً وحاملة لشُحنٍ لا تتلاءم مع التصوّر الوضعي الذي تسعى مؤسّسات الدولة التونسية إلى إرسائه وترسيخه في إطار إقامة الدولة المدنية وتقوية دعائمها.

ومن جهة ثانية، أصبحت هذه الكلمات متقادمة، وتكاد تكون خارجة عن الاستعمال، وهي الظاهرة التي يطلق عليها علماء الدلالة (désuétude)، أي خروج ألفاظٍ من الاستعمال بسبب عتاقة المعنى، حتى يصبح غير مفهوم، ولا يحيل على أي مرجع مادي معروف أو متعارف عليه.

وفي حال تبنّي هذه المقترحات، لن يكون ما تقدّمه اللجنة تعويضاً لألفاظ بألفاظ وحذف كلمات متقادمة بمقابلاتٍ محايدة أو مستحدثة، بل ستكون له تبعات في تحوير القيم القانونية والاجتماعية والنظرة إلى المبادئ والأحكام التي تنظّم المجتمع. ومن أمثلة ذلك المناداة بحذف كلمة "الفاحشة"، والتي أجمع علماء التفسير والفقه القدامى على ارتباطها بممارسة "الزنا"، وتعويضها بمفهوم أعم وهو "الاعتداء الجنسي"، والذي ينقسم تبعاً لذلك إلى فئات، ذات طابع جزائي، تختلف بحسب عمر الجاني والضحية، ووجود التراضي بينهما من عدمه، وحتى مكان ارتكاب الجريمة.

وهكذا تُفرغ هذه المخالفة من شحنتها الفقهية لتصير دالة على "اعتداء جنائي"، تتحدّد خطورته وطبيعته وعقوبته بحسب حيثيات وضعية قانونية، منبثقة من روح المجلّة الجنائية وتفاصيلها.

اعتمد عمل هذه اللجنة إذاً على التحوير اللغوي والتدقيق في الاختيارات المعجمية من أجل "وَضْعَنَة" (Positivisation) القيمة القانونية، أي جعلها خاضعةً للبحث العقلي ومرتبطةً بالتصوّر الحديث للإنسان والجسد والحرية والضمير، مستقلّةً بذلك عن كلّ إملاء ديني أو غيبي.

وفي حقيقة الأمر، يبدو هذا الجزء من عمل اللجنة، مرتكزاً على سابقة غير بعيدة: ففي سنة 2005، أصدر وزير العدل آنذاك، البشير التكاري، قراراً بمراجعة المجلة الجنائية وضمنه فقرة حول تتبّع المفردات المتقادمة التي لم تعد تتوافق مع الحساسية الحديثة.

ويُجمع هذان القراران، رغم تباين سياقيهما السياسي، على فكرة إيقاع التحديث أولّاً داخل النسيج المعجمي، والنفاذ إليه من دائرة الكلمات وما تستدعيه من المرجعيات والصور الثقافية.

وفي فورة السعي إلى المساواة الكاملة بين الجنسَين، وربما الاستجابة لمؤثّرات خارجية، أهملت هذه اللجنة مبدأً دلالياً جوهرياً يؤكّد أنّ للكلمات ذاكرة سحيقة، كما قال السيميولوجي الفرنسي رولان بارت، وأنها تحيل على تصوّرات وجودية، وليس فقط على مجرّد معان اصطلاحية يستأثر بمعرفتها أهل الاختصاص.

فلهذه الكلمات، داخل فئات عريضة من المجتمع التونسي، وبحكم نشأتها الدينية، قداسةٌ كبرى، وهي لن تسمح بالمساس بها والتعدّي عليها، لأنها ترى فيها ضمانة استمراريتها وعامل لحمتها. وهو ربما ما يفسّر تواتر الحشد للتظاهر ضد أعمال اللجنة من أجل ثني المشرّع الرسمي عن المصادقة على مقترحاتها.

نعم، قد تكون هذه المفاهيم المحرّكة للناس غير عقلانية وغير متجانسة داخلياً، بحسب معايير التحليل المنطقي، وقد لا يكون لها صلة بفويرقات المصطلح ودلالاته الدقيقة وما ينطوي عليه من اختلافات الفقهاء والمشترعين، ولكن لها وظيفة دينامية اجتماعية قوية: شدُّ الشعب إلى إرثه وذاكرته. فقد رأت ردود الفعل الغاضبة، على الصعيدَين الوطني والإقليمي (ردود في مصر والسعودية...) في مثل هذه القرارات تلاعباً بثوابت المجتمع وإرادة لتفكيكها ولو من بوّابة اللغة...

ولعل دلالة الكلمات من أخطر المنافذ وأقلّها أماناً، وربما لو أبقت اللجنة عملها في مستوى التحويرات القانونية الصرفة لما كان لعملها هذا الصدى الواسع.

دلالات

المساهمون